ذلك لكون الالتزام بالحدود المذكورة لا يتّفق مع الطبيعة الاستعمارية التي لا تعترف للطرف المعني بحق, أو بمصير, أو بشرعية وجود ومشروعية. ومن هذا ستعطي هذه الطبيعة الحقَّ الكامل لها, ولما تخطط له, وتعمل على تحقيقه على قاعدة أنها تُنصّبُ نفسها قوةً فوق الشعوب, والحق بالنسبة لها هو حق القوة, كما السياسة هي سياسة الأقوى فيما يريد, وفيما يعتدي.
وبناء عليه تصبح للسياسة معانٍ ومضامين تتيح للأقوياء وضع المفاهيم الجديدة المتناسبة مع خلق شروط تدخلهم في شؤون الأمم الأخرى دون أي رادع حقوقي, أو أخلاقي, أو عُرفي لتُعرِّفَ السياسة بأنها فن الوصول إلى الهدف الاستعماري بكل المنطق الميكافيلي المعروف.
والسيادة كذلك تأخذ المفاهيم المعتبرة حين تكون سيادة الأقوياء على أرضهم, وتمنحهم قوتهم سيادة على أرض الآخر. أي السيادة هي سيادة الأقوى على أراضي الأضعف وحياته, وصور تقرير مصيره على أرضه. وفي هذا الحال رأينا كيف اختُرقت حرمة السيادة عند العرب منذ دخول هولاكو على الحاضرة العباسية للعرب عام 1258 م, وما تبعه من موجات استعمارية لم تقف عند احتلال فلسطين من قبل الغزاة الصهاينة بل نشهد النيات المبيتة لخلق شروط احتلال سورية وتدميرها, وتحويلها إلى إمارات لا يمكن تقدير عددها اليوم.
وهكذا نرى في المفاهيم الاستعمارية أن السياسة هي سياسة القوة, والسيادة هي سيادة الأقوى على مصير الآخرين. وفي تطبيق هذا الفهم على الحالة الراهنة سنجد أن تركيا الجارة المسلمة التي من المفترض أن يقودها إسلامها إلى إدراك حق الجار أكثر من أي سياسة أخرى تدّعي أن سورية تتعدّى على سيادتها وعلى أرضها حين تطلق قذيفة هاون مدبّرة أصلاً من قبل التعاون الوثيق مع الموساد الصهيوني على أرض تركيا لتظهر سورية وكأنها تستبيح السيادة التركية ويصبح بمقدور تركيا أن تتباكى حكومتها أمام البرلمان الذي يناهض سياسة حكومته لتجبره على منح حكومة أردوغان حق شن العمليات العسكرية خارج الحدود التركية عند الضرورة, وزيادة في التضليل يؤكد داوود أوغلو وزير خارجية تركيا بأن هذا التفويض ليس إعلاناً للحرب وهم منذ لحظتها ما زالوا يطلقون قذائف المدفعية على الأراضي السورية بتعدٍّ واضحٍ على سيادة الغير على أرضه, وإضافة إليه تتباكى الإدارة الأميركية على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض « جوش إيرنست » حيث قال:«نحن نفهم أن الأتراك اتخذوا خطوات لضمان عدم انتهاك سورية لسيادتهم ونحن نقف جنباً إلى جنب معهم فيما يتخذونه من إجراءات ». نعم إن أميركا حريصة على سيادة تركيا على أرضها, ونحن في سورية مع هذا الحرص فكل دولة لها حق السيادة ويجب أن لا يتم التعدّي على هذا الحق لكن هذا الحق كيف يبيح لتركيا الحكومة الأردوغانية أن لا تحترم حق السيادة السورية على أرضها, وكيف تؤوي الجماعات المسلحة وتؤمن لهم المعسكرات ظاهراً لأغراض إنسانية وباطناً للتدريب على صنوف الإرهاب المختلقة, ثم من أين للحكومة التركية الحق السيادي الذي يبيح لها أن تطرح شأن تغيير رئيس الجمهورية وكأن سورية مقاطعة هاتاي «الاسم التركي للواء اسكندرون السليب» ؟. وزيادة عليه تنضمُّ الجوقة الأوروصهيونية لهذا الحق السيادي التركي تنصره وليس لسورية أي حق سيادي لينصر.
إذاً, السياسة التي تفقد مقوماتها الأخلاقية لتصبح سياسة التغوّل والغطرسة تعطي حق السيادة لمن تشاء وتحرّمه عمن تشاء فهذه هي صورة النظام الدولي الذي قادته أميركا طيلة عقدين من أسوأ تاريخ العالم, وهاهي تنهزم ليتحول عالمنا إلى متعدد القطبية, وتبدأ بالبروز سياسات إحقاق الحق الدولي, وتنفيذ نصوص القانون الدولي التي حولتها أميركا ولا سيما اتفاقيات جنيف إلى مشاريع تدّخل لها في الشؤون الداخلية للأمم الأخرى, وحوّلت مجلس الأمن ولو خارج صلاحياته إلى السماح بتغيير النظم وشن الحرب عليها بانتهاك صارخ للقانون الدولي, وصارت المادة السابعة فزّاعة عالمية تضع الأمم المعنية على عتبة الطاعة بالإكراه وخاصة حين يتعلق الأمر بالمصالح الصهيونية وكيانها العنصري إسرائيل.
وفي معايرة سياسة القوة, وسيادة الأقوى في ظل نظام دولي لا يعرف للعدل سبيلاً سنجد أن تركيا ذاتها في سفينة « مرمرة وقتل 9 أتراك من قبل إسرائيل » لم تستطع أن تصل إلى حق سيادي لها. وأجبرت على سلوك العبد الذليل الذي يتلقى مصائبه دون أن يكون له حق الدفاع عن نفسه, أو المطالبة, وقد قالها كليتشدار رئيس حزب الشعب التركي المعارض لأردوغان إنه لماذا لم يتحمس أردوغان للذين قتلتهم إسرائيل في سفينة مرمرة كما يتحمس ضد طلقة هاون أطلقتها قوى معروفة ولماذا أرواح الذين قتلتهم إسرائيل أرواح مباحة, وطلقةٌ معروفٌ سبب إطلاقها تخترق حق السيادة؟ وبكل المفاهيم التي نواجهها في السياسة والسيادة نجد المعايير المزدوجة ونجد افتقاد العامل الأخلاقي لأن الحلف الأمروصهيوأوروبي ومَنْ يستتبعهم من العرب لا ينظرون إلى أي حق سياسي عادل, أو سيادي عادل, والمقصود في توتير الأجواء على الحدود السورية التركية هو تحضير الشروط المناسبة لإدخال البلدين في حرب مفتعلة يأتي بنتيجتها التدخل الدولي على البند السابع حقاً سيادياً للحلف المذكور. فالغاية من كل ما حدث ويحدث هو تدمير الوطن السوري ودولته لأن بقاءه إعلانٌ دائم عن وجود الأمة الحية التي تهزم مشاريع الصهاينة, ومن ثم تدميرُ السياسة والسيادة القائمتين على قيم الاستقلال.