تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الأدب الساخر .. واحة استراحة للفكر تظللها الأشواك

شؤون ثقا فية
الإثنين 27/3/2006
فادية مصارع

يقول المفكر والاديب اناتول فرانس: السخرية والرحمة هما مستشاران جيدان, احداهما تجعل حياتنا محبوبة بواسطة الابتسامة, والثانية تجعل حياتنا مقدسة عن طريق الابكاء.

تلك هي الحياة مليئة بالمتناقضات , فتارة تضحكنا واخرى تبكينا, الغث والسمين, الطيبون والكاذبون, المنافقون والمراؤون.‏

بعض الشعراء حاولوا تمزيق هذه الاقنعة التي يتوارى خلفها هؤلاء بنقد اجتماعي يتجه الى اصلاح ما فسد من المجتمع, عن طريق السخرية, والتي هي موهبة لا تتأتى إلا لقلة ممن اوتوا عمقا في التفكير, وسعة في الخيال, ودقة في الملاحظة وارهافا في الحس,وقدرة على التقاط جوانب الضعف ومواطن التناقض فيها.‏

(السخرية من الذات) عنوان محاضرة ألقاها د. احسان النص في مجمع اللغة العربية:‏

بدأ محاضرته بالحديث عن الادب اليوناني وشيوع منهج سقراط الساخر فيه, والذي كان حدثاً ضخماً في الفكر اليوناني والانساني,وبفضله اتجهت الفلسفة اليونانية في طريق النظر العقلي ونبذت وراء ظهرها مغالطات السفسطائيين. فكانت نظرات المفكرين الساخرين ابتسامات اشرقت على ثغر الفكر الانساني فلطفت من جهامة محياه الكالح المنقبض الاسارير.‏

-الطير يرقص مذبوحاً من الألم‏

كثير من الشعراء والادباء ادركوا ما تنطوي عليه الحياة من نقائض ومعايب خَلقية وخُلقية, فلم يخفوها عن الناس, وكان هذا اللون من السخرية فيه مرارة دفينة تعرض في صورة دعابة.‏

وأولهم كان الشاعر المخضرم الحطيئة (جردل بن أوس) الذي ابتلى بأمور ولدت لديه عقداً نفسية, منها انه كان متواضع النسب, وفقيراً معدماً يضطر الى سؤال الناس, قبيح المنظر ما دعاه الى الانتقام من الناس بتسليط هجائه المقذع عليهم, ولم يسلم من هجائه حتى اقرب الناس اليه, واذا لم يجد احداً يهجوه, هجا نفسه:‏

أبت شفتاي اليوم إلا تكلما‏

بشر فما ادري لمن أنا قائله‏

ثم اطلع في حوض فرأى وجهه القبيح فقال:‏

أرى لي و جهاً قبح الله خلقه‏

فقبح من وجه وقبح حامله‏

وحين دنت منيته لم يفارقه نزوعه الى السخرية ففي وصيته التي رواها الرواة: ألواناً من السخر الحاقد على الفقراء والعبيد, ويذكر انه ركب أتاناً وقال رجزاً يقر بلؤمه:‏

لا أحد ألأم من حطية‏

هجا بنيه وهجا المرية‏

من لؤمه مات على فرية‏

-الهجاء في العصر الاسلامي والاموي‏

كان الشعراء في هذين العصر كما بين - د. النص - منشغلين بالتهاجي فيما بينهم حتى سموا بشعراء النقائض, واخرون انصرفوا الى الشعر الغزلي بنوعيه العذري والماجن, وفئة ثالثة الى الشعر السياسي مديحا للملوك والامراء وهجاء لمن يناوئهم, لذلك لم نجد نماذج للسخرية عصرئذ.‏

-السخرية في العصر العباسي‏

كان رائد الشعر الساخر في العصر العباسي ابن الرومي فقد سخر من نفسه, ومن شكله القبيح ومشيته المتأرجحة فقال:‏

أرى لي مشية اغربل فيها‏

حاذراً ان أساقط الاسقاط‏

وسخريته تمثل السخرية السوداء المفعمة بالمرارة والحسرة,وهي سخرية الرفض لكل ما يحفل به مجتمعه من تناقضات ومفارقات:‏

وخلافاً لابن الرومي كانت سخرية ( ابو دلامة) غير نابعة من سخط على المجتمع, وانما سخرية الدعابة النابعة من رغبته في اضحاك الناس وارضائهم, وفي الوقت نفسه وسيلة لاستدرار العطاء من الخلفاء واعيان الناس .يقول في هجاء نفسه :‏

ألا أبلغ اليك ابا دلامة‏

فليس من الكرام ولا الكرامة‏

إذا لبس العمامة كان فرداً‏

وخنزيراً اذا نزع العمامة‏

-فلسفة السخرية‏

نجدها عند فيلسوف الشعراء ابي العلاء المعري, الذي تأمل في احداث الحياة وسلوك البشر واوضاع المجتمع, إذ اوجد ان القوم لا هم لهم الا جمع المال والاقبال على الدنيا وملذاتها, فأراد ان يوقظ ذوي الغفلة ودعا الى اصلاح المجتمع يقول:‏

بني الدهر مهلاً إن ذممت فعالكم‏

فإني بنفسي لا محالة ابدأ‏

ويرى ان الناس ان اشبهوه فبئس الخلق هم :‏

لو كان كل بني حواء يشبهني‏

فبئس ما ولدت في الخلق حواء‏

-النثر الساخر‏

علما النثر الساخر في العصر العباسي الجاحظ وبديع الزمان الهمذاني, وكلاهما تدخل سخريته في نطاق الدعابة , فالجاحظ كما وصفه د. احسان : كان اسود اللون, دميم الخلقة, جاحظ العينين, قصير القامة, وقد تقبل ما لحقه من هذه الصفات برحابة صدر ولم يحمل في نفسه حقداً على القدر او المجتمع, لأن منزلته الادبية الرفيعة حملت الخلفاء والاعيان والولاة على تقريبه واكرامه, وكانوا يستمتعون بأحاديثه الكلية ونوادره . وقد رأى ان يبدأ بنفسه في السخرية فقال مرة:‏

ما اخجلتني الا امرأتان, رأيت احدهما في العسكر, وكانت طويلة القامة, وكنت على طعام, فأردت ان امازحها فقلت لها : انزلي كلي معنا, فقالت : اصعد انت حتى ترى الدنيا.‏

ويروى عنه انه نسي كنيته مرة فسأل زوجته, فأخبرته انه ابو عثمان .‏

اما بديع الزمان الهمذاني, فقد ابدع في فن المقامات التي لا يتحدث فيها بلسانه, وانما بلسان الراوية عيسى بن هشام, وبطلها ابو الفتح الاسكندري ويغلب على الظن ان هاتين الشخصيتين من اختراع البديع .‏

اخيرا: الادب الساخر يلخص قول الشاعر: ( ابدأ بنفسك فانهها عن غيها) فالساخر شاعراً كان ام اديبا لا يتجه الى الاخرين بالنقد فحسب وإنما يبدأ بنفسه, فيكشف عن نواقصها وعيوبها ويعريها, فليس عيبا ان ننقذ ذواتنا , لكن العيب ان ننال من الاخرين وننسى اخطاءنا او نتجاهلها.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية