تبكي على فقدان فلذة كبدها، ولاتبكي لأنَّ الشهادة وحدها من تحيلُ الدمعة، إلى زغاريد وجدانية. إنها أم كلِّ شهيدٍ سوري، آلَ على انتمائه إلا أن يُلبّي نداء الوطن.. إلا أن يُقاتل ويستبسل، إلى أن ينتصر فخوراً بأن تكون روحه ودمه هما الثمن. نعم، هي أمّ الشهيدٍ وقدرها..
قدرُها بأن تحيل كل دمعة حزنٍ وفقدٍ ووجع من عينيها، إلى كلمات رفعتها الشهادة.. قدَّس الوطن سرّها.. هي أيضاً «أم بنيان».. أو «سهيلة العجي» التي استشهد ابنها فأبت أن تزغرد إلا عبرَ أحرفٍ من نور.. أحرف، لملمت مافيها من آهاتِ الفقدِ وأحالتها إلى رسائلٍ تعبقُ مفرداتها بالدمِ الشهيد - البخور.. لأجلِ هذا، ولأنها ككلِّ أمهاتِ سورية، عظيمة ومبدعة ومضحِّية واستثنائية.
التقينا بها لنسألها، عن الشهادة وشهيدها، وعن رسائلها الوجدانية.. سألناها فانهمرت عباراتها زغاريدٍ استقرّت في ذاكرة سوريتنا.. أيضاً، في ذاكرة التاريخ الذي ماأكثر ماتألَّقت فيه، إبداعاتُ أمهاتنا.. «في لحظةِ اختناق، شعرت برغبة قاتلة إلى الكلام.. أردت أن أصرخ وأصرخ وأن يسمعني فضاء لاكهذا الفضاء.. لم أجد إلا القلمْ لأبوح له أصدق حروفي.. تمنيتُ أن أختلي وإياه بعيداً إلا عن البوح والألم.. تمنيت أن أكتب وأكتب إلى أن تفيض دموعي من عيون القلم.. وكتبتُ.. كتبتُ عن الشهيد الذي أقول في عيده: يومُ الشهيدِ هو يوم النور، وفيه تحتفل الملائكة بضيوفها.. «أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر».. التاريخ.. الزمن.. الوقت.. دقات قلبي... يجعلوني أقف في هذا اليوم إجلالاً وانحني، لمن سجلوا للتاريخ، أن الحياة وقفة عزٍّ.. لشهداء وطننا الغالي، الذين هم البنيان أيضاً».
أما عن رسائلي إلى «بنيان» فلقد فاضتْ ولم تنتهِ.. نعم، لم ولن تنتهِ في مخاطبتي إياه:
أيها الشامخ... الصامد.. الراسخ.. المثال الرمز.. لقد أذهلتَ العالم بغمضة عينيك ورحلت.... يقولون أنك رحلت!.. أنَّكَ استشهدت!.. يقولون، إن الشوق والفراق والبعدُ.. صعب.. يقولون ويقولون ويستغربون... هم لا يدركون بأنَّك الحيّ في ذاكرتي.. الخالد في وجداني.. بأنَّكَ الروح تختلج في رحمي.. في شرايين.. دمي.. نبض قلبي.. أحزن عليهم... عمَّ يتحدثون...؟! هم لا يبصرون، ياروح الروح.
لايشعرون، كم هي ثقة الله بي كبيرة وعظيمة، كي يكرمني ويجعلني أمّ شهيدٍ عظيم.. ياشهيد الحقِّ.. شهيد الأرض والعرض.. يا ابن الجيش العربي السوري.. ابن أكاديمية الاسد للهندسة العسكرية... كم هي سعادتي كبيرة، كوني على يقينٍ بأنكَ أميرٌ في الجنة، وبجوار رب رحيم كريم... لك العزة.. لك الفخر.. لك المجد.. وأنت ابن سورية البار... كتبتُ لكَ، ولم أكتب بحياتي... عزفتُ لك من ألحان صدري.. أمجادَ عشق وخلودٍ زرعتها يداك الكريمتان، وهما تضغطان على الزناد.. تشقان طريق النصر... يافارساً أهداني إياه الله فأهديتهُ للوطن.
يانجماً ارتقى فبكته ملائكة السماء، ليكون رسالة الحقّ على الأرضِ تحكيها الأجيال بمفرداتِ الوفاء. كتبتُ.. لأن الشهادة أصبحت عشقاً، وحبك بقلبي سجن مؤبد.. لاألومك على حبك لوطنٍ، أصبح حبيباً، ولايلام العاشق بمن أحب.
الوطنُ حبيبكَ، وأنت حبيبي.. تحديت العالم لأجله، وأنا تحدّيت بك إلا أرضك ووطنك ودمك. كتبتُ من غير قصد، ومن دون تخطيط.. أردتُ أن أعبّر عن إحساسي بحروفٍ سرقتُها من نورِ عينيكَ عندما أغمضتهما.
أغمضتهما كي لا ترى قذارة وعهر أهل الأرض... سرقتُ من نورهما الصاعد إلى السماء، شعاعاً أخطُّ به حروفي لك.. كتبتُ، وها أنا أزغرد في كل يومٍ، للمجد والكبرياء الذي سطرته.. لتاريخ سورية.. أمنا الغالية... بنيان...!!!!؟ ياشهيدي وشهيد سوريتي- أمكَ وأمي.. يا كل ياشهداء الوطن الغالي: أنتم الأحياء في جنان الخلد، وأنتم تسمعون وتعرفون. صلاتي إليكم.... أيها الشهداء القديسون.. اشفعوا لنا عند الرب الواحد الأحد.. صلّوا كي يترأف بحالنا ويرحم بلدنا.. صلّوا كي تقوم سورية الحبيبة، قيامة الحياة..
هذه رسالتي.. أنا أمُكم.. أمُّ الشهداء... والدة الشهيد «بنيان بدر ونوس».. من شهداء «مشفى الكندي».. أعتقد وبعد كل هذه الرسائل التي ابتدأت ولم تنتهِ.. أعتقد بأن كل المفردات التي ستليها أو ستعقّب عليها, لن تكون سوى ترديد.. آمين.. فيارب الوطن العظيم، تغمَّد شهداء هذا الوطن برحمتك، واجعلهم أنبياء الأرض إلى أبد الآبدين.. آمين.