في العاشرة من عمري, أذكر لا أنسى.. نبتت أجنحة الشعر.. نما زغبها في دمي..!
كنا نسكن في أحد أحياء حمص الشرقية القديمة الفقيرة.. (صليبة العصياتي) في دار لها عرصة واسعة, تحيط بها بيوت لبنية شبه متداعية يستنجد بعضها ببعض لتبقى على قيد الحياة, تتوسد جدرانها قناطر حجرية بيضاء وسوداء تحتها شبابيك خشبية معشقة, تكاد من طحلب أو طحين تكون بفعل امتصاصها للمطر الغزير وتعرضها للشمس الكاوية, وفي الدار خلق كثيرون, كباراً وصغاراً.. هم أخوة أربعة مع أبنائهم, يوحد مشاعرهم في حياة تقليدية لا معنى لها شيئان: صلة الرحم والحرمان المطأطىء.
وذات عصر, خلت الدار من أهلها وكان اليوم جمعة, وكان الفصل خريفاً من ربيع.. وبقيت وحدي.. خرج الخلق وظللت وحيداً..
جلست على الأرض الحجرية الزرقاء.. أخذت أنظر الى السماء الرمادية, وكان هناك في وسط حوض القرنفل وفم السمكة والمنثور شجرة زنزلخت وحيدة مثلي, أوراقها صفراء وثمارها غير الأكول جافة جعداء, وأغصانها متهالكة.. رحت أتأملها بشرود وأفكر في وحدتها وفي وحدتي أنا الطفل المحب للعزلة منذ كنت في الرابعة من عمري كما كانت تحكي لي أمي دائماً بعدما كبرت, ثم شعرت بشيء ما في صدري, بغصة ما في حلقي, بشعور ما من الأسى قد لا يوصف في أعماقي, وفجأة انهمرت دموعي, دموع الصبي الذي كنته, وأنا أسمع من مذياع الأهل الأثري أخبار نكبة العرب في فلسطين وزوال هذا الاسم المقدس النبيل في خارطة العالم وحلول اسم إسرائيل محله..! أكان ذلك أول لقاء لي مع الشعر?. الشعر حزن, والشاعر حزين.. أتلك هي أبجدية الابداع?! لا فن دون مكابدة الألم واحتراق الأعصاب..
وكبر الطفل الذي غادرته.. أصبح يافعاً, ثم وضع قدميه على عتبة الشباب الأول واكتشف لذة القراءة ومتعة مصاحبة الكتب, ومأساة الوطن السليب الطازجة آنذاك توجع قلبه الغرير..!
في منتصف الخمسينات الثاني أولع ولعاً ملك عليه أحاسيسه بشاعر ومطرب.. حزينين كانا مثله, الشاعر هو صلاح عبد الصبور, والمطرب هو عبد الحليم حافظ.
وجد في شعر الشاعر, وغناء المطرب, صدى لروحه الغريبة الحائرة وعواطفه الجياشة الندية فأحبهما وما برح.. وكانا مفتاحي بداياته الشعرية في ولادة الشعور الخاص بالشاعر لا بشعر الشاعر.. على مهل سيأتيه..
وهو ينظر اليوم الى هذه البدايات, عندما يعود الى تصفحها, على أنها تمرينات شعرية متواضعة لا أكثر, ولايحتفظ لها بأي قيمة فنية سوى قيمة ذكراها العاطفية في التدرب على اللغة وصياغة الصورة وجمالية التعبير وبهجة إنجاز ( قصيدة) قد لا يكون لها من هذه التسمية إلا (قصد) كتابتها والفرح الطافح بإنجازها.
2- مكوّنات التجربة
وعود على بدء..!
ظهرت ميولي الأدبية في الصف السابع الاعدادي بتشجيع من أستاذي في المدرسة الشاعر نصوح فاخوري الذي أثر عليّ تأثيراً ذا جانبين, الأول فكري سياسي يتعلق بالثقافة الاشتراكية والمد اليساري فانحزت إليهما مبكراً في إطارهما العربي القومي, والثاني أدبي إبداعي, فأخذت أنكب على المطالعة النهمة بتوجيه منه وحرص, فاستهواني أدب أمتنا القديم فاستوفيت ثقافة لا بأس بها من التراث تعمقت خلال دراستي الجامعية في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق, كما استهواني الشعر الرمزي الفرنسي خاصة فقرأت كل ما ترجم ووقع بين يدي آنذاك من آثار شعرية لبودلير ورامبو وفيرلين ومالارميه, وكان لوصفي قرنفلي وعبد السلام عيون السود من شعراء مدينتي تأثيرهما على بداياتي الشعرية. ونشرت أول مقطوعة نثرية لي بعنوان (حلم) في مجلة النقاد عام 1955. وفي مرحلة تمريناتي الشعرية هذه, شدني كما ذكرت صلاح عبد الصبور ولا أغفل عن ذكر أحمد عبد المعطي حجازي وبدر شاكر السياب وخليل حاوي-وقد عرفت أدونيس متأخراً فتفاعلت مع مناخاتهم النفسية ولغتهم التعبيرية, لكنني بعد مرحلة الاستواء والنضج النسبي غادرتهم لأحاول امتلاك استقلالي الشخصي وصوتي الشعري ونبرتي المميزة قدر الامكان, وما أزال في لج هذه المحاولة.
وفي مجال (تجربتي) الشعرية, أجرؤ على القول إن الشعر كان هاجسي الحياتي المطلق منذ اليفاعة وما زال. والشاعر المخلص لعملية خلقه الفني, لا بد له أن يطور باستمرار أدواته الفنية ليصل الى مرحلة (التشكيل) في بنية القصيدة, من هذا المنطلق أشدد على أن تجربتي الشعرية هي نتاج معاناة لهموم الذات والانسان والوطن والأمة وخلاصة ثقافية, حياتية وقرائية تشكل بنية الشاعر ومخزونه في وعي العالم والوجود, وقد مرت هذه التجربة ( معمارياً) بثلاث بنى: بنية القصيدة الكلاسيكية الأداء, الرومانسية العواطف والصور في مطلع الشباب, ثم لاحقاً بنية القصيدة الحديثة, أعني قصيدة التفعيلة, وقد أخذت الحيز الأكبر من إنتاجي, ثم بنية قصيدة النثر التي كتبتها على قلة وتعبيراً عن حاجة إبداعية أو طفرة فانتازية أحسست خلالهما أن القيود الفنية تطغى عليّ بثقلها فتمردت عليها لا غير, أو قد تكون كتابتها بدافع ركوب موجة هذه (القصيدة) في مطلع السبعينات وقد تزامنت هاتان البنيتان منذ هذا التاريخ في إنتاجي, وإن كنت قد توقفت آنذاك عن كتابة (قصيدة النثر) ولكنني لست ضدها لأنها أسلوب تعبيري له خصوصيته النوعية ومذاقه المتفرد.
لقد تناولت قصيدتي بشكل أو بآخر هم مضامين الحداثة الشعرية ووسائلها الايصالية وما يستتبعه من ظواهر الحداثة في جميع النواحي. ومعلوم أن للحداثة آفاقاً وتنويعات, ولها مفاهيم مختلفة وأحياناً متقاربة, ومصطلحها لا يزال حتى هذه اللحظة غائماً وقلقاً ومختلفاً على مدلولاته في محيط الشعراء والنقاد والقراء عامة. (وإن كنت أعتقد اعتقاداً شخصياً أن الحداثة هي منجز غربي خالص) لذلك يمكن أن تقع علي (حداثات شعرية) بعدد الشعراء الحديثين. هناك من يحدّث المضمون, وهناك من يحدث الشكل وهناك من يحدث المضمون والشكل معاً (ولا أتحدث هنا عن الأشكال التجريبية للحداثة من مثل القصيدة البيضاء والقصيدة الشفوية والقصيدة المجسمة). أما بالنسبة إليّ فقد كان همي الحداثي أن أنقل اللغة من منطقة الجمود والمتداول والرتابة والجاهزية, من متحف الشمع والمحنطات والمعجمات البلاغية الى شمس الربيع ورعشة الحياة والنغم الانساني وأناقة التعبير, لذلك أنا (حداثي) بمعنى من المعاني في لغتي, في أجواء قصائدي وحالاتها في البوح الانسكابي, في التجنيح وراء سماء الحلم وتلاوين الخيال وجماليات الطبيعة تعويضاً عن واقع محبط, ووجود أجرد, ما يجعل قصيدتي كأنها معلقة في الفراغ السديمي.. يُنظر إليها من بعد كأنها قنديل يلفه ضباب.
طبعاً لم أفجر لغتي من الداخل كما نسمع من بعض الناقدين.. طبعاً لم أكسر استعمالات بناها المتداولة المستحدثة في غموضها ورؤاها وأبعادها, لذلك ظل نصي الشعري »حداثياً) بالمعنى المغلق, وأنا لا أطمح, ولا أريد أن أجعله »حداثيا) بالمعنى المفتوح حتى هذه البرهة, لأنني ما زلت أكتب الى الآن تحت تأثير »الوعي اللاوعي) وما أعتقد أنني في المدى المنظور على الأقل, سأصل الى مرحلة ألغو فيها تحت تأثير »اللاوعي) أي بسريالية مطلقة, ففي أرضيتي الثقافية لايزال المورق من شجرة التراث يلتف ويتعانق مع المورق من نبتة الحداثة.
3- المحيط الشعري
على مستوى مدينتي حمص, مدينة الشعر والشعراء منذ عبد السلام بن رغبان ديك الجن في العصر العباسي حتى يومنا هذا, يوم الشعر الحديث والشعراء الجدد, نموت وعايشت اتجاهات شعرية مختلفة: ففي إطار المدرسة الكلاسيكية المعدلة كان تيار رفيق فاخوري يمثل لي آلة الشعر, أدواته ومفاتيحه, لغته وأوزانه, صناعته وصقله, لكنني كنت أحس أن الشعر يهرب من هذا التيار ويختفي وراء واجهة البلاغة التقليدية القديمة, فلم يكن لشعراء هذه المرحلة : رضا صافي ومحيي الدين الدرويش ومعلمهما رفيق أي أثر في تجربتي الشعرية وأنا أنظر إليهم كمدرسي أدب مثقفين ثقافة تراثية موغلة أكثر مما هم شعراء مبدعين ملفوحين بوهج المعاناة الوجودية الفنية وأحترم فيهم جهد البعث والإحياء الشعري والحفاظ على رصانة الشعر وسموه.
وفي إطار المدرسة الرومانسية المتجددة شغلني وصفي قرنفلي بقلقه وتمرده وتحمسه للمدرسة اللبنانية في الشعر وانخراطه إبداعياً في تيارها, ولذلك أعتبره الرومانسي الثوري الأول ولشعره المصفى أثر في تجربتي الشخصية والأدبية في مطالع شبابي الشعري, وخلبني ولايزال عبد السلام عيون السود بصفائه المطلق وغنائيته المرهفة ومقاساته المتفردة في الحزن والحب والموت فحفظت شعره كاملاً في منتصف الخمسينات وما برحت أردده وأذهل أمام لغته الوامضة المكثفة المعبرة, وحيرني عبد الباسط الصوفي بأسطورة حياته وشعره وانتحاره, لكنني لم أسترح شعرياً إلا لمرحلته المتأخرة في الشعر, مرحلة ما قبيل السفر الى كوناكري ومرحلة شعر الغربة السوداء في غاباتها وشواطئها وإنسانها الفرح المعذب في لحظة توحدة بالأرض واندفاعه بالرقص مثل قصيدته (مكادي) و(الطبول) و(تيرانك والحصاد) وغيرها. ولم يكن لرمزيته المضطربة القلقة أي صدى في جهازي النفسي والجمالي ما عدا القلة النادرة من قصائده الابداعية الموشاة بطيوف الرموز الحالمة.