إن الحقيقة الساطعة والقائمة هي انتصار سورية , سورية التي وقفت على الرغم من الدمار الذي لحق بها نتيجة ما تعرضت له . وهذا الانتصار يعتبر فشلاً لمشروع بوش في الشرق الأوسط ( الشرق الأوسط الجديد ) الأمر الذي يشير إلى بداية النهاية , ليس فقط للمشروع السياسي وإنما للمشروع ( الجهادي ) الذي استخدم كأداة قسرية لولادة هذا الشرق الجديد . وهاكم كيفية الربط بين هذين المشروعين :
في أعقاب حرب الخليج الأولى ذكر الجنرال ويسلي كلارك تلك الواقعة ( زرت في عام 1991 بول وولفويتز وكان معاوناً في استراتيجية الدفاع , قلت له : يجب أن تكون سعيداً لأداء القوات المشاركة في عاصفة الصحراء . فأجابني " نعم , ولكن في الحقيقة كان يجب التخلص من صدام حسين ولم نفعل ذلك . ولكن تعلمنا شيئاً وهو أنه بوسعنا استخدام جيشنا في الشرق الأوسط والسوفييت لن يمنعونا . كما ولدينا من 5 إلى 10 سنوات لكي نتمكن من تفكيك تلك الدول المحسوبة على السوفييت – سورية , إيران , العراق – قبل أن تبرز قوى عظمى وتتحدانا .)
وقد ناقش ديفيد ورمزر فكر وولفويتز في وثيقة صدرت في عام 1996 بعنوان ( التعامل مع الدول المتدهورة ) – في أعقاب مساهمته بالوثيقة الاستراتيجية المشؤومة بعنوان " استراحة نظيفة " كتبها ريتشارد بيرل لنتنياهو في نفس العام – وموضوع الوثيقتين كان يرتكز على تفنيد مباشر للفكر " الانعزالي " الذي نادى به بات بوكانان – من حركات اليمين واليمين المتطرف في الولايات المتحدة –
وفي هذا الصدد أشار الكاتب الليبرالي دانييل سانشيز أن ( ورمزر اعتبر أن تدمير العراق وسورية هو أداة لتسريع انهيار القومية العربية العلمانية بشكل عام وحزب البعث بشكل خاص , لأنه كان منذ البداية عاملاً لسياسة خارجية منحازة للسوفييت .. وقد نصح الغرب التخلص من هذا العدو التاريخي وإيصال انتصار أمريكا في الحرب الباردة إلى الذروة , ويحل محل القومية العلمانية ( الخيار الهاشمي ) . إذ وبعد انهيار هاتين الدولتين في الفوضى تصبحان ممتلكات هاشمية تسيطر عليهما الأسرة الملكية في الأردن والتي بدورها تسيطر عليها الولايات المتحدة وإسرائيل .
وكان لهاتين الوثيقتين تأثيرهما الكبير على تفكير واشنطن في عهد إدارة بوش . ومما أثار كراهية المحافظين الجدد تجاه الدول القومية العلمانية العربية أنها ليست من مخلفات الاتحاد السوفييتي فحسب , بل لأن روسيا ومنذ عام 1953 اصطفت مع تلك الدول القومية العلمانية في جميع حروبها ضد إسرائيل , ولا يمكن للمحافظين الجدد أن يغفروا أو يتسامحوا مع ذلك .
وترتكز وثيقة استراحة نظيفة , كما مشروع قرن أميركي جديد على هدف السياسة الأميركية وهو ضمان أمن إسرائيل . ويصر ورمزر على أن القضاء على البعث ينبغي أن يكون له الأولوية القصوى في المنطقة حتى ولو على حساب المد الأصولي الإسلامي.
وفي الواقع , كانت الولايات المتحدة تستخدم التطرف الإسلامي بسخاء , فقد أرسلت منهم بالفعل جماعات مسلحة إلى أفغانستان في عام 1979 من أجل استمالة غزو سوفييتي – وهو ما حصل . وفي وقت لاحق , ولدى سؤاله إن كان يأسف لإطلاقه التطرف الإسلامي بهذا الشكل بسبب الغزو الإرهابي للعالم أجاب المستشار الأميركي في عهد كارتر بريجينسكي قائلاً :" آسف على ماذا ؟ لقد كان لهذه الفكرة أثرها في جذب الروس إلى الفخ الأفغاني . وفي اليوم الذي عبر فيه السوفييت الحدود نحو أفغانستان كتبت إلى الرئيس كارتر كلمتين " لدينا الآن الفرصة في توريط السوفييت في حربها الفيتنامية ." .
وبالتالي فقد استخدمت القوى الغربية الإسلام المتطرف لمواجهة الناصرية والبعثية والسوفييت والنفوذ الإيراني والآن تستخدمه ضد الدولة السورية.
وهذا هو بالضبط هدف الربيع العربي , فقد كان هدف الحركات الإسلامية كسر العالم العربي القومي العلماني , وكذلك حماية ملوك وأمراء الخليج المرتبطة بهم الولايات المتحدة كونهم يخشون الاشتراكية المرتبطة بالقومية العربية .
وفي أعقاب سقوط جدار برلين , كانت الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق بداية إعادة تشكيل الشرق الأوسط , وبداية تأكيد واشنطن على سلطتها ذات القطبية الواحدة على الصعيد العالمي وتدمير العراق وإيران والعودة إلى سورية وتأمين إسرائيل .
ولكن روسيا لم تقف موقف اللامبالية من أفعال واشنطن , وفي الوقت الحالي تشهد الولايات المتحدة " حرباً أهلية " بين أولئك الذين يريدون معاقبة بوتين لتخريبه العصر الأحادي القطب الأميركي ويقوده ستيف بانون وبين أولئك الذين يريدون انكفاءً أميركياً نحو مشاكلها .
والآن لم يتبق سوى الغبار ,فالوهابية فقدت مصداقيتها بسبب عنفها ووحشيتها غير المبررة , كما وأصاب مزاعم السعودية بالدراية السياسية والزعامة الإسلامية نكسة كبيرة . ولكن لا يمكن القول أن التطرف الإسلامي قد انتهى . لأن القاعدة والتي تنبأت بفشل داعش هي التي سوف تحل محلها, والتنظيمان ينتميان للفكر الوهابي .