وما أقساه من فقدان فقدان العظماء !
وما كان أصعبه من نبأ، نبأ رحيل مفكر كبير من عالمنا هو الدكتور العالم المحامي أحمد عمران الزاوي.
نقل إليّ نبأ رحيله الصديق الأديب ازدشير خليل، نقله هاتفياً صباح يوم الثلاثاء في العاشر من هذا الشهر، وقبل هذا التاريخ بيومين كنت قد اتصلت هاتفياً لأطمئن على صحته، فقال لي ابنه الأستاذ المحامي عمران: لقد أدخلناه اليوم إلى المستشفى. وقبل رحيله بساعات استأنفت الاتصال بغية الاطمئنان عليه، فكان الجواب إنه مازال في المشفى، وحان وقت الرحيل، وتلك هي إرادة الله.
لقد غاب عن عالمنا العالم الموسوعي القانوني اللامع الدكتور أحمد عمران الزاوي الذي أغنى المكتبة العربية بمؤلفاته الحسان الجادة في ميادين معرفية متنوعة.
لم يكن رحمه الله مجلياً في ميدان واحد، وإنما كان في ذروة الإتقان والجدية في البحث والتأليف في القانون والتصوف والأدب والسياسة والحكمة والفلسفة، مع ألقه في القانون، وقد كان أول نقيب للمحامين في طرطوس، كما شغل منصب الأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب، وكان الخطيب المفوّه، إذ عرفته المحاكم والمنابر نبعاً متدفقاً في البلاغة والفصاحة والبيان، وعرفته المراكز الثقافية والمنتديات محاضراً متمكناً من الموضوعات التي يتناولها، والقضايا التي يعالجها، ومحاوراً بارعاً في تفنيد الآراء والرد عليها بأسلوب حضاري راقٍ ومدعم بالحجج والأدلة والبراهين. وطالما حضرنا بعضاً من محاضراته في المراكز الثقافية بدمشق، فكنا مشدودين إليها، ومعجبين بمضامينها، ومأخوذين بلغتها الجزلة الآسرة، وصياغتها الرائعة، ومقدرين عالياً سمو فكرها، والبراعة في تناولها وشموليتها.
عرفته دوائر القضاء المدافع الصلب عن حقوق الفقراء والمظلومين، والمساند القوي لتوطيد دعائم القانون بكل استقامة ونزاهة وتجرّد، وترفع عن المادة، يزين ذلك كله ضمير حي يدور مع الحق أنّى يدور.
كان فقيدنا الغالي باحثاً جاداً ودؤوباً، وقف نفسه للعلم، وتبتل على محرابه، فأنجز المؤلفات المتميزة أسلوباً ومضموناً، والمتنوعة في موضوعاتها. ومن هذه المؤلفات الحضيض، حوار مع الذات والقوى الخفية، موضع العرب في السلم الحضاري، كلا لم يخرج العرب من التاريخ ولن يخرجوا، عالم الرجال وعالم الأطفال، المرأة في مواجهة التحدي، كتاب الصهيونية واليهودية، بؤس الحقيقة، مطارحات فكرية، علاقة الثقافة بالسياسة، أضواء على العولمة والحضارة وتكامل الحضارات، الصوفية بين الوهم والحقيقة، القراءة المعاصرة في الميزان ...
رحمك الله أيها العالم الموسوعي الرحمة الواسعة، فقد فقدنا في غيابك منظومة من القيم التي كنت تتحلى بها أصالة ونبلاً وتهذيباً جماً، ورأياً صائباً، وتوجيهاً سديداً، وانتماءً وطنياً وقومياً وإنسانياً عزَّ نظيره.
ومما يعزينا بغيابك أيها النجم الساطع في سماء ثقافتنا العربية ما خلفته وراءَك من تآليف ومجلدات تعد كنوزاً تنهل منه أجيالنا الزاد المعرفي والخلقي واللغوي، ومن أبناء بررة صنع يديك الكريمتين، وبرعاية من عقلك الكبير وصدرك الرحب.
تغمدك الله بواسع رحمته سعة ما قدمته لوطنك وأمتك من عطاء فكري سام وعلم غزير، وجعل الجنة مثواك، وتعازينا القلبية لأهلك الكرام، ولمحبيك ومقدّري فضلك، ونعزي الوطن والأمة وعالم الفكر الهادف بفقدان أحد مثقفيه المشهورين.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.