تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


«الثــورة» تنشـــر تفاصيـــل مـــارواه فائــــــز الخـــــــوري عن أبطـــال الســــادس من أيــــــار.. في سجنهم استقبلوا نبأ إعدامهم وبسمة النصر على شفاههم

مئوية الشهداء
الثلاثاء 3-5-2016
حدث ذلك في مثل هذا اليوم... كانت السنة الثانية من الحرب العالمية الأولى.... والحرب ويلاتها كثيرة: جوع، وباء، جراد....

ولكن الذين يؤدون رسالات قومية لايوقفهم انتشار الحروب ولايعرقل سيرهم انتشار الجوع والوباء... كانت الانتفاضة العربية قد بدأت بالحركة منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر. ولقد تجسدت في جمعيات ونواد تحمل أسماء مختلفة وتقوم في مختلف مناطق الأرض العربية.‏‏‏

‏‏‏

وكانت مؤسسة هذه الجمعيات والنوادي من كل قطر عربي ومدينة عربية: كانوا من دمشق وكانوا من بيروت وكانوا من القاهرة،وبغداد... وكانت اضخم قافلة من الشهداء.‏‏‏

اليوم نستذكر ماجرى ونعود إلى روايات نقلها السجين فائز الخوري شقيق فارس الخوري.‏‏‏

في دمشق وبيروت‏‏‏

لم تكن الحرب مفاجأة لتركيا، فقد كانت محط انظار التنافس والصراع الاستعماري الأوروبي وكانوا يسمونها بالرجل المريض وكانوا ينتظرون تصفية تركة الرجل الذي يسير في طريقه إلى الموت... والحركات العربية كذلك لم تكن مفاجأة لتركيا فقد قامت في البلدان العربية الجمعيات القحطانية والمنتدى واللامركزية والاخاء والفتاة... بعضها أسسها الطلاب العرب في باريس وبعضها أسسها المثقفون العرب في استنبول بتركيا نفسها... وبعضها أسسها السياسيون العرب في دمشق وبيروت وبغداد والقاهرة.‏‏‏

قمة النضال‏‏‏

وكانت سنة 1913 هي قمة النضال العربي لتخليص البلاد العربية كلها من الحكم العثماني... ولم يكن ذلك ببصيص الحرية الذي ظهر في دستور السلطان عبد الحميد سنة 1876 وبدستوره الثاني عام 1908 وانما كان ذلك بتصرفات جمعية الاتحاد والترقي التي كان العرب من مؤسسيها الأول.‏‏‏

وقد انحرفت الجمعية فيما بعد عن المبدأ الذي اشترك العرب فيها لأجله.. وبرزت بتعصبها وتحاملها على العرب فأرادت تتريك البلاد العربية تتريكاً شاملاً ابتداء من القضاء على اللغة العربية حتى آخر شيء يجعل البلدان العربية تركية بالمعنى الصحيح.‏‏‏

ووقف العرب في وجه تركيا وكانت أقوى مراحل وقوفهم هذا في عام 1913، ونشبت الحرب فتقحم تركيا نفسها فيها عام 1915.‏‏‏

السفاح جمال‏‏‏

لم ينتهز العرب فرصة الحرب والأزمة التي أطاحت بتركيا ليشتدوا بطلب الاستقلال لبلادهم بل كان ذلك امتداداً طبيعياً لمراحل الهدف الذي سعوا إليه... ولكن تركيا وضعت البلاد العربية تحت يد السفاح جمال باشا..‏‏‏

وكانت أولى خطوات جمال ان شكل محكمة عرفية في عاليه بلبنان. واخذت هذه المحكمة تصدر احكامها الشكلية على عدد كبير من الذين يقومون بالحركات التحررية التي تهدف إلى تخليص البلاد العربية من الاستعمار العثماني...‏‏‏

والاحكام كانت كلها احكاماً بالاعدام، وكان الإعدام صبيحة السادس من أيار.‏‏‏

القافلة الأولى‏‏‏

في هذا اليوم أفاق الشعب العربي في بيروت وفي دمشق ليروا في ساحة الشهداء عدداً من الرجال الذين كانوا يعملون لتحرير البلاد من التسلط التركي الأسود، يتأرجحون على أعواد المشانق.‏‏‏

وكانت تلك أول قافلة كبيرة من الشهداء...‏‏‏

وكان من بين الذين اعدموا فيها الشهداء: عارف الشهابي، رفيق رزق سلوم، أمين الحافظ،سعيد عقل، عبد الحميد الزهراوي، شكري العسلي، رشدي الشمعة، عبد الغني العريسي، شفيق مؤيد العظم،عبد الوهاب الإنكليزي،جرجي حداد، جلال البخاري.....وعدد آخر.‏‏‏

كان ذلك آخر ثمن دفعته تركيا في البلاد العربية وكان ثمناً باهظاً اذ أخرجت مدحورة من البلاد العربية بأكملها.‏‏‏

وقد ظلت تفاصيل استشهاد احرار العرب في 6 أيار 1916 مجهولة للرأي العام العربي.‏‏‏

في يوم الأربعاء 15 كانون الثاني 1919 نشرت جريدة (البرق) التي كان يصدرها في بيروت الشاعر الكبير بشارة الخوري أول معلومات عن كيفية استشهاد احرار العرب على ايدي الجلادين العثمانيين، وكانت تحت عنوان (مذكرات سجين في ديوان عرفي عاليه وقد كتبها الأستاذ فائز الخوري شقيق العلامة المرحوم فارس الخوري، وكان من بين المتهمين الذين قبضت عليهم السلطات العثمانية وسجن في عاليه مع الشهداء الذين نفذت فيهم احكام الإعدام ثم اطلق سراحه.‏‏‏

وتقول مجلة (الأوراق اللبنانية) في عددها الصادر في أيار:‏‏‏

1955 إننا (نرجح ان صاحبها لم يكتبها كلها بيده، وانما كتب مقدمتها فقط ثم قص القسم الآخر والأكبر على احد المحررين في جريدة (البرق) فكتبه هذا بأسلوبه الصحفي السريع حيث لامجال للتنميق والتصويب وهو يختلف عن أسلوب السطور الأولى منها. ويؤيد هذا الترجيح قول الجريدة في انتهاء المذكرات)، كانت كلمة امس عن «مذكرات سجين عاليه» اخر ما علق في الذهن من الخاطرات التي ذكرها لنا صديقنا فائز افندي الخوري وقد يرى القارئ فيها بعض القصور والايجاز ولاسيما تيار الحوادث اثناء سجن دام ستة اشهر متوالية، ولكن الاهوال والجندية في اقاصي بلاد الاناضول أنست ذلك الصديق بعض تذكاراته المؤلمة.‏‏‏

وفيما يلي بعض ما جاء في هذه المذكرات كما نشرتها مجلة (الأوراق اللبنانية): وكنا في حلب بضعة من الاخوان،فإذا صوت يطن في آذاننا همساً: قبض على عبد الكريم الخليل: لاتسل عن شدة تأثير النبأ علينا وقد كنا في الأستانة نسعى لغاية واحدة.‏‏‏

وما هي الا فترة من الزمن تراوحت انفاسنا فيها بين الأمل والمخاوف حتى قرأنا في الصحف نبأ اعدام عبد الكريم ورفاقه.‏‏‏

وعلمنا من البيان الذي اذاعه جمال السفاح على أثر جريمته المنكرة،ان التحقيقات جارية للقبض على بقية المتهمين (المجرمين) فصرنا ننتظر ساعة بعد أخرى إلقاء القبض علينا.‏‏‏

وعزمنا على الفرار فأبت على بعضنا روابطه العائلية إتيان هذا الأمر، خوفاً من ان تساق عائلاتنا بسببنا إلى العذاب. وفر القسم الآخر ونجا وخدم بلاده بنجاته.‏‏‏

القبض علي في حلب‏‏‏

‏‏‏

طلبت إلى عاليه وأنا في حلب فذهبت إلى الثكنة العسكرية مخفوراً وبقيت هناك ساعة ثم نقلت محفوظاً في القطار إلى عاليه – مدينة الهول والرعب – فوصلت إليها نصف الليل.‏‏‏

جاؤوا بي ولم يسمحوا لي بأن أمر بمنزل اهلي لاخذ بعض ما احتاج إليه،فدخلت السجن وليس علي غير ثيابي.‏‏‏

وهون الله علينا، وقضيت تلك الليلة في (فندق الصحة) وهو مكان التوقيف، وكانت ليلتي مملوءةبالهواجس والمخاوف. فما اطل الصباح حتى أخذوني إلى رئيس الديوان،المدعو شكري بك،وهو متربع على عرش مجده في قاعة مظلمة وكنت قد بدأت اشعر بتأثير نفساني مزعج لا اعرف تحليله. ونظر الرئيس في ملياً ثم سألني:‏‏‏

-أأنت الذي كنت سكرتيراً للمنتدى الادبي في الاستانة؟‏‏‏

- نعم....‏‏‏

-وكنت أيضاً في حلب عند الضابط أمين لطفي (وكان أمين لطفي في السجن اذ ذاك).‏‏‏

- نعم....‏‏‏

- وأنت شقيق فارس الخوري مبعوث دمشق، أليس كذلك ؟‏‏‏

-نعم....‏‏‏

وبعد هذه السؤالات التي حسبت انها بدء محاكمتي، نادى الرئيس ضابطاً صغيراً اسمه شفيق افندي وأمره أن يذهب إلى حسن بك رئيس الهيئة التحقيقية.‏‏‏

من كان يحث العرب على الاستقلال ؟‏‏‏

قادني ذلك الضابط حالا،وأنا واجف القلب منقطع النبضات، إلى حسن بك المذكور، فوجدته مستوياً على كرسيه العريض، وقد فتل شاربيه ورفع منكبيه وحملق بعينيه السوداوين ولما رآني تزحزح على كرسيه وقال: شفيق انظر اذا كان مع هذا شيء يؤخذ.‏‏‏

فهجم علي شفيق المذكور وأخذ يفتشني، كما يفتش صندوقاً، فوجد معي مسدساً صغيراً وبعض أوراق لا أهمية لها. فأخذ المسدس وترك الأوراق،وأنا اقف اعد الدقائق لأرى نتيجة الاستنطاق.‏‏‏

وبعد أن أكمل شفيق الملعون تفتيشي ناداني حسن بك، بطل الديوان العرفي الذي جيء به خصيصاً من الاستانة لتنفيذ هذه المهمة.‏‏‏

فتقدمت إلى أمام منضدته وأنا أقول في نفسي:‏‏‏

- إنا لله وإنا إليه راجعون....‏‏‏

- قال: أأنت فائز الخوري ؟‏‏‏

- نعم أنا هو بعينه‏‏‏

-أين كنت قبل الحرب؟‏‏‏

- في مكتب الحقوق بالاستانة.‏‏‏

- الم تكن سكرتير المنتدى الادبي هناك ؟‏‏‏

-بلى كنت السكرتير.‏‏‏

فتمتم ببعض كلمات لم أفهمها ثم قال:‏‏‏

- حسن!... أتعرف سليم الجزائري،وعزيز المصري، ورشدي الصفدي؟‏‏‏

- نعم أعرفهم.‏‏‏

فحملق بي وسألني: ومن كان منهم يلقي الخطب في المنتدى، حاثاً العرب على الاستقلال، ولاعنا سلطة الاتراك اسياد البلاد ؟‏‏‏

- لم اسمع احداً من هؤلاء قال شيئاً في المنتدى بهذا الصدد. ولكن سليم بك الجزائري ألقى امامي محاضرة تاريخية لم يتجاوز فيها سرد الأمثلة التاريخية والادلة. وتلك كانت خطة المنتدى في تشريب تلامذة المدارس من أبناء العرب في الاستانة الفوائد التاريخية العلمية بطريقة المحاضرات وقد حضر جلساته ومحاضراته كل من طلعت باشا وجمال باشا وغيرهما.‏‏‏

وعندما وصلت إلى هنا رأيت الشرر يطلع من عيني الرجل وهدر وزمجر ورفس الأرض برجله ثم قال:‏‏‏

- وما هي علاقة حزب اللامركزية بالمنتدى الأدبي؟‏‏‏

فلم أفهم علاقة ذلك بالغضب الشديد بهذا السؤال البسيط ولما لم يسمع مني جوابا انطلق لسانه وصار يدمدم ويقول:‏‏‏

- ذلك الحزب الشرير الذي يسعى لفصل البلاد العربية عن جسم الدولة العلية ولكن اعلموا أيها الأغرار الخونة أن الأتراك سيعيشون رغما عن أنوفكم وسيحكمونكم إلى الابد؟ إننا ضحينا بثلاثمائة ألف جندي في الدردنيل ورددنا الإنكليز على أعقابهم وسنضحي أيضاً بنصف مليون جندي من أبطالنا البواسل في الترعة وندخل مصر ظافرين ونطرد الإنكليز منها ونقضي على آمالكم ونقتل فكرتكم الخبيثة ونبتر من جسم الدولة هذه الأعضاء الفاسدة واعلم الآن ياهذا:‏‏‏

أن الانكار عاقبته الإعدام فقل كل ما تعلمه وإلا أصابك ما أصاب رئيسك عبد الكريم الخليل فاشتر رفع حبل المشنقة عن عنقك باقرارك.‏‏‏

وما وصل حسن بك إلى هنا من خطابه «النفيس» حتى تفتحت أوداجه وبرزت عيناه من محجريهما واهتزت أعضاؤه وأخذ يلهث كالثور فعندما رأيته على هذه الحالة الغريبة نسيت موقفي المخيف وابتسمت ورآني ابتسم فاكفهر وجهه وحدق بي بغضب وقال لي: أتجسر على الضحك ويحك! ألا تخاف؟ هل تظنني اتبالد وأمزح معك؟ فأجبته وقد عاودني القلق:‏‏‏

مازلت على يقين تام بعدلكم وببراءتي فإني لاأخاف.‏‏‏

وكأني أعجبته بهذا الكلام فتحرك من مقعده وفتل شاربيه وابتسم وقال لي: اذهب الآن وسأدعوك ثانية ولكن يجب عليك أن تقول كل ماتعلمه فذلك اضمن لحياتك وابقى على شبابك.‏‏‏

خرجت ولا أدري كيف خرجت من حضرة حسن بك فوجدت بعض الجنود واقفين بالباب وقال لي شفيق الملعون: –رفيقي في المدرسة- هلم بنا إلى السجن..‏‏‏

فمشيت معه والجنود تحيط بي حتى وصلنا إلى السجن فإذا هناك سكون عميق وهدوء مخيف وكانت أبواب الغرف مفتوحة وفي كل غرفة سجينان وعلى كل باب جنديان وأول ما وقعت عليه عيناي كان عبد الغني العريسي وهو في غرفة وحده ثم رأيت في الغرفة الثانية توفيق البساط وإلى جانبه الأمير عارف الشهابي وفي الثالثة الأمير عمر الجزائري وعمر حمد ثم رأيت نجيب شقير ومعه خوري ماروني الذي إتهم بأنه تلقى كتابا من أميركا فيه «تمنيات خائنة».‏‏‏

لا تتصور خوفي عند مشاهدة هذه الحالة.‏‏‏

الله من تلك الساعة.... فقد قلت:‏‏‏

عبد الغني هو أكبر المتهمين جرماًعلى زعمهم وهو محكوم عليه بالموت حتما فوضعي معه في غرفة واحدة والجمع بين حالتي وحالته ليس بسليم العواقب علي إذن فحياتي في خطر.‏‏‏

ولما طرأ علي هذا الفكر، فكر الموت تضعضعت حواسي تماماً وصرت كالغائب لا أرى ولا أشعر فجمدت في مكاني مبهوتاً ثم ارتميت على السرير وكان آخر عهدي بالأمل وكان البرد يخرق العظم والرياح تصر في الخارج فارتميت على السرير ارتجف من البرد لأن النوافذ المشرعة كانت تلفحنا بالرياح القاسية.‏‏‏

عمر حمد يرحمه الله‏‏‏

فنظر إلي شاب لايتجاوز الخامسة والعشرين فنادى الحارس وقال له: خذ كانون النار من هنا وأعطه لهذا الشاب، وجاءني الجندي بالكانون وهو كالصنم فسألته عن الشاب الكريم فأجاب: هو عمر حمد فالتفت إليه وشكرته بنظرة وبعد أن اصطليت بالنار قليلا التفت إلى الغرفة المقابلة فشاهدت توفيق البساط متكئا على سريره ولما وقع نظره على نظري خلع نعليه ونزع جواربه ومد رجليه كأنه يقول لي: انظر!.‏‏‏

فنظرت إلى رجليه ورأيت... نعم رأيت... ولا أنسى ضربات السياط فقد اخترقتهما عرضا وتركت فيهما أثراً أسود قاتماً وكان قد مضى عليها مايزيد على عشرين يوما وأثرها لايزال كما رأيته.‏‏‏

وخفت أن يلم بي ما ألم به من الضرب، فوقعت ثانية في حيرة وذهول وكأن المخاوف والأفكار المشؤومة ضنكت جسدي فما شعرت في اليوم الثاني إلا وأنا طريح الفراش لاأقدر على الحركة وبقيت طوال النهار اتقلب على جمر الغضا من الألم وقد أنساني مرضي مصيري المخيف ولما حل الليل بسواده الممقوت شعرت بزيادة وطأة المرض وقبل أن أتمكن من دعوة الجندي لطلب طبيب السجن أصبت بهذيان شديد فما عدت أشعر بمن حولي ولا بما يجري أمامي.‏‏‏

هذيت كثيراً ولا أعلم ماذا قلت في هذياني ولكن الجندي أخبرني بعد إبلالي إني تكلمت كثيراً، وجاءني الطبيب في اليوم الثاني مع معاونه وهو لا يعرف الطب ولا دخل مدرسته فأخذ يجس نبضي ويضع يده على رأسي وأذنه على بطني وأخيراً قال: إنه مريض بالتيفوس..‏‏‏

مسكين هذا الطبيب الأبله لم يفرق بين الملاريا والتيفوس ولكن حكمه علي بهذا المرض أنقذني من استنطاقات عديدة فبقيت شهراً كاملاً أداوى وأعامل كموبوء بالتيفوس وأنا لاعلة بي إلا الملاريا.‏‏‏

الرفاق في السجن‏‏‏

قضينا أربعة اشهر على تلك الحالة تتراوح الأيام بين الياس والرجاء وكان رفاق الشقاء يتسلون بأحاديث استنطاقاتهم واستجواباتهم ومن هذه الأحاديث مابقي عالقاً بذهني.‏‏‏

قيل لي أن عمر حمد كان اجرأ المتهمين في الاستنطاق, ومن حوادثه أن اللعين حسن بك كان يستنطقه مرة فقال: أنت كاذب.‏‏‏

فثار الدم في رأس ذلك الشاب الجريء, وكاد يهجم على رئيس الهيئة التحقيقية لولا الجندي الذي كان واقفاً وراءه بالسلاح. ولكنه اكتفى بأن أجاب حسن بك: فحملق حسن بك ونهره غاضباً: اسكت ياكلب!‏‏‏

فلم يتمكن عمر من السكوت وقال: بل أنت كلب.‏‏‏

وهاج الوحش, فتدحرج كالفيل عن كرسيه العريض وهجم على السجين المكبل وصفعه ثلاثاً وأعاده إلى التوقيف.‏‏‏

مع الأمل.. واليأس‏‏‏

ولم يقطع القسم الأكبر من المسجونين أملهم بالنجاة فالشيخ أحمد طبارة قيل له أنه سينفى فقط, فأرسل قبل الإعدام بأسبوع يطلب حقيبة الثياب استعداداً للسفر أما سعيد عقل وباترو باولي وجورجي حداد فكانوا أكثر المتهمين أملاً بالنجاة وكان أملهم حقيقياًلأنه لم يثبت عليهم شيء, ولا في الاستنطاقات وكنا نعجب جميعاً لجرأة عمرحمد في كل أطواره, فإنه لم يكن يبالي بالموت, ولا بالحياة, وكان يقطع أوقاته بنظم الأشعار.‏‏‏

اما شفيق المؤيد فلم يكن أملاً بالحياة بل كان متيقناً بأنه سيحكم عليه بالإعدام, ومع ذلك ظل محافظاً على سكينته, يقضي أوقاته ماشياً في الغرفة, يتسلى بالسبحة الطويلة.. وقطع صديقي رفيق رزق سلوم أمله من كل نجاة وكان يقول لي دائماً أني شاعر بأن حكم الإعدام عالق بين عيني,ولكني لم أعد خائفاً كالسابق لأن اليأس من الحياة يجعل الموت هيناً محمولاً..‏‏‏

وفي ذات يوم, جاءني صديقي رفيق مكفهر الوجه على غير عادته وقال لي: إن نفسي تحدثني بأنه قد جاء أجلي فاذكرني بالخير ولاتنس صديقك.‏‏‏

ثم أخذ ساعته المعلقة بزنده وقدمها لي تذكاراً, وهي مابرحت معي أعرف وقتي منها وأذكره كلما نظرت إليها.‏‏‏

قبل تنفيذ الحكم‏‏‏

وقبل يوم أو يومين من ليلة الإعدام شعرنا, أو عرف أكثرنا بالمصير, غير أنه لم يعرف أحد أسماء الذين سيقادون إلى الموت.‏‏‏

واذكر أن أطول أيام حياتي كان ذلك اليوم الذي سبق الليلة المشؤومة وأطول ساعة مرت, حسبتها في حياتي جيلاً كاملاً, هي تلك التي بدأ الجندي الحارس يدعو المحكومين الواحد تلو الاخر إلى لبس ثيابهم.‏‏‏

أن كلا منا, ونحن نتجاوز الأربعين توقع أن يسمع اسمه من فم الجندي وليست تلاوة الاسم سوى دلالة على إعدام حامله.‏‏‏

ياللهول ذلك الانتظار!‏‏‏

وفي صباح الخامس من أيار صدر الأمر إلى عبد الحميد الزهراوي وشفيق المؤيد ورشدي الشمعة وشكري العسلي وعبد الوهاب الإنكليزي وعمر الجزائري, ورفيق رزق سلوم بأن يكونوا على أهبة السفر فلبس هؤلاء الرفاق ثيابهم وخرجوا لاينبسون ببنت شفة, ثم ركبوا القطار إلى دمشق وكان أخر عهدنا بهم وآخر عهدهم بالحياة.‏‏‏

ولم يهدأ لنا بال طول ذلك النهار ولااستقر بنا القلق على حال.‏‏‏

وغابت الشمس ودقت الساعة التاسعة وفتح الباب فالتقينا دفعة واحدة إلى جهته لنرى الطارق إلا لعنة الله على الوجه الكريه, نذير الموت! حارس كريه المنظر, من عمالقة الأتراك, وقف بالباب ونادى بصوت لاأثر للشفقة فيه.‏‏‏

سعيد عقل, ألبس ثيابك وأخرج وقام الرفيق الشهيد لايقول كلمة ولايلقي سؤالاً, ولبس ثيابه وخرج دون أن يلتفت إلينا, أو نجسر على أن نلتفت إليه, مضى وأغلق الباب.‏‏‏

ربع ساعة‏‏‏

ربع ساعة كامل مر علينا, يعجز قلمي عن وصف موقفنا فيه, ربع ساعة هو أطول من عام.‏‏‏

كلنا واجم, كلنا أصفر الوجه, يلتفت بعضنا إلى بعض بحذر.‏‏‏

وفتح الباب ثانية وظهر الشبح الكريه ونادى:‏‏‏

الشيخ أحمد طبارة, ألبس ثيابك واتبعني.‏‏‏

ولم يكن الشيخ أحمد منتظراً أن يتلى اسمه فبغته وقال: أولادي!... أوصيكم بأولادي خيراً.. ياأخوان سلموا على أولادي وخرج وأغلق الباب ومضى ربع الساعة الثاني وفتح الباب وعاد الرجل منادياً: عبد الغني العريسي, ألبس ثيابك!‏‏‏

ونظرنا كلنا دفعة واحدة إلى عبد الغني فإذا هو عالي الجبهة يبتسم.‏‏‏

أني رايته في تلك الساعة أشجع منه في كل المواقف..‏‏‏

ومضى ربع ساعة, وفتح الباب للمرة الرابعة ونادى مناديه:‏‏‏

عمرحمد,ألبس ثيابك.. إني لم أر أشجع من هذا الفتى وهو اصغرنا سناً, كان قد بدأ لبس ثيابه لما نودي باسم عبد الغني, لعلمه أن نصيبه مقرون بنصيبه وخرج من بيننا وهو ينشد بأعلى صوته: نحن أبناء الألى شادوا مجداً وعلا.‏‏‏

وظل الباب يفتح كل ربع ساعة إلى أن انتهى أمر المحكوم عليهم بالإعدام ونودي رفيق رزق سلوم فكان آخر القافلة.‏‏‏

مسكين رفيق, لم يشأ إلا أن يودعنا واحداً واحداً, فلبس ثيابه وأخذ يعانق كلا منا ثلاثا ورباعاً وهو يقول: ولما اقترب مني عانقني طويلاً وقال لي: اذكرني كلما وقعت عينك على الساعة...‏‏‏

ولما مضى رفيق, وقف بنا ذلك الجندي اللعين الوجه والقلب وقال: يمكنكم أن تناموا الآن..‏‏‏

وهاتوا لتلك العيون, وتلك القلوب, ساعة راحة في تلك الليلة..‏‏‏

آخر أيامنا في السجن‏‏‏

قضينا آخر ليلة مرت علينا في السجن بين السهر والكآبة, لم يغمض لأحدنا جفن, ولاخرجت من فمنا كلمة.‏‏‏

وفتحت لنا الأبواب في صباح اليوم الثاني فأصبحنا «شبه أحرار» نتمشى في الخارج ونتحدث مع الناس.‏‏‏

وجلست على شرفة غرفتي من جهة الشرق, أتأمل حزيناً, وكانت الشمس على وشك الطلوع.‏‏‏

هذه الشمس أغمضت أمس جفنها علينا ونحن زمرة جمعتها أسباب الشقاء, وما فتحه صباح اليوم إلا وقد تفرق شمل الرفاق, فقسم منهم شنق, وقسم نفي وقسم خرج بريئاً.‏‏‏

طلعت محمرة الأطراف, أو أن أعيننا الحزينة أرتنا الاحمرار عليها, فجددت في نفوسنا تذكارات الرفاق, وبينما كنت أفكر بمصير الذين خرجوا أمس من بيننا إذا بولد يحمل جريدة «الشرق» التي كان يصدرها في دمشق جمال السفاح وهو ينادي بأعلى صوته:‏‏‏

المشانق... في بيروت والشام! فاختلج قلبي في صدري وناديته, وأخذت منه عددا وقرأت فيه تفاصيل الإعدام.‏‏‏

في ليلة واحدة شنق في دمشق ستة أبطال من أخلص أبناء هذه الأمة وشنق في بيروت أربعة عشر شابا هم لباب النهضة الأدبية والعلمية في سورية.‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية