ولعل السؤال الأهم هنا ماتأثير العولمة في داخل الكيان الصهيوني؟ هل العولمة بما تحمله اليوم من تحديات الاختراق والخلخلة للمجتمعات المغلقة عرقياً وأيديولوجياً، ستكون عاملاً مساعداً في استمرار المجتمع «الإسرائيلي» على «ثوابته» التي تأسس عليها و«أساطيره» التي يتغذى فكرياً وروحياً منها ويتشدد في تأكيدها من باب عدم الثقة بالنفس؟.
هل انحيازه الشديد نحو اليمين، واليمين المتطرف دليل قوة وعافية..؟ لقد تعلمنا من دروس التاريخ أن المجتمعات أو الجماعات الإنسانية تلجأ إلى التطرف والعنف عندما يجتاحها الخوف من الآخر وتستشعر الضعف وعدم الاطمئنان إلى مصيرها.
وهل «مصادفة» أن يكون طلب وزير الخارجية في حكومة العدو الجديد، شديد التطرف في يمينيته وعنصريته، الإلحاح على المندوب الأميركي مدعوماً بطلب مماثل من رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو أن يأتي اعتراف العرب والفلسطينيين أولاً بـ «يهودية دولة» «إسرائيل». وفي إقصاء واضح لفلسطينيي 1948، من مسلمين ومسيحيين؟ وذلك ماعبرت عنه في الواقع تسيبي ليفني وزيرة خارجية «إسرائيل» السابقة وزعيمة حزب «كاديما» في البرلمان «الإسرائيلي» الحالي.
الأمر الذي يدل على أنه لافرق بين المصنفين «بالصقور» والمصنفين «بالحمائم» في الكيان اليهودي والرأي الراجح في إسرائيل اليوم هو: «لاتواجه الإدارة الأميركية الجديدة في معركة معلنة، اقبل بحل الدولتين كلاماً كما قبلت به الحكومة »الإسرائيلية« السابقة ثم انقضه واقعاً، كما فعلت تلك الحكومة أيضاً في واقع الأمر، وسيمدك النزاع الفلسطيني، الفلسطيني بين «الفصائل» بالتبرير المقنع للمجتمع الدولي، وليس لواشنطن فقط، وكفى الله المؤمنين يقصدون «المؤمنين» بالكيان اليهودي«النقي» شر القتال مع إدارة أوباما».
هذا هو السائد داخل الكيان الصهيوني اليوم ولا يستبعد أن تلجأ الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى هذا التكتيك، فقد استمرت المفاوضات الخاصة بعملية السلام عقوداً طويلة، وسوف تستمر عقوداًأطول، وخاصة مع الانحياز المتزايد نحو اليمين المتطرف الرافض للتعايش مع الشعب الفلسطيني خاصة ومع العرب عامة.
إنه الخوف وحده، خوف الإسرائيليين من تطورات المحيطين العربي والإسلامي الذي صار يدفعهم للحفاظ على كيانهم من بناء الجدار الفاصل إلى يهودية الدولة والكيان قبل كل شيء. قبل ثلاثة عقود، كتب ناحوم غولدمان، أحد مؤسسي إسرائيل مقالاً نشرته صحيفة »لونوفيل أبزر فاتور الفرنسية المقربة من الحزب الاشتراكي الفرنسي في بداية حكمه، والمعروف بتأييده القوي لـ إسرائيل ومن الآراء المدهشة والصادمة لهذا الداعية الصهيوني نفيه عن رجال السلطة في إسرائيل منذ ذلك الوقت صفة رجال الدولة واتهامهم أنهم في مستوى عمد الأحياء ومخاتير القرى، وأنهم حسب تعبيره لايستحقون قيادة دولة يعيش فيها ملايين من البشر، وتقع في أكثر من مناطق العالم أهمية وحساسية.
والمقال أشمل من ذلك وأعم ويتضح أن غولدمان لم يعد مؤمناً أن إقامة دولة إسرائيل ككيان سياسي عسكري هي الحل الأمثل للمشكلة اليهودية وأن ذراعها العسكرية الطويلة نذير بقرب انحلالها، وهو يلخص تاريخها لثلاثين عاماً من ثلاثة فصول متسارعة، التأسيس، الازدهار، والانحلال.
وكي لا تصل إسرائيل إلى الفصل الأخير فإنه يرى تخليها عن طابعها العسكري التوسعي وإعادتها الأراضي العربية المحتلة، وفك ارتباطها العضوي بأميركا على أن تصبح إسرائيل في النهاية مركزاً روحياً لليهود، مقترباً بذلك من فكرة فاتيكان يهودي.
بطبيعة الحال، فإن المؤسسة العسكرية الحاكمة داخل الكيان الصهيوني لم تستطع التنازل عن امتيازاتها لمصلحة هذه التصورات التي اعتبرتها مثالية وانتحارية للغاية من جانب هذا ناحوم غولدمان.
ولايزال التراجع في »إسرائيل« مستمراً نحو مزيد من الانغلاق التام للمجتمع الإسرائيلي بقوة السلاح، والدعوة اليوم إلى »يهودية« الدولة، بمعنى إخراج عرب /1948/ ليس تراجعاً فقط بمعيار حقوق الإنسان في العالم، وإنما هي نقض لما قبله جيل .