والأزمة بعض فقرات هذه المسألة, لكن المسألة أبعد من حدود الأزمة وأعمق من مسافات المأزق كما يحلو للبعض تسميته, ولنلاحظ هذين البعدين في المسألة اللبنانية حيث نرى في البعد الأول أن الأبعاد المطروحة هي سهلة في الصياغة, طبيعية في التداول وهي في النقطة الأقرب للسيطرة والحل حتى لكأن الأمر الطبيعي هو ألا تكون هناك أزمة وفي البعد الثاني نرى هذا الامتداد للمأزق, هذا التطور من درجة لأخرى ومن طور لآخر حتى لنكاد نصاب بحالة من الإحباط واليأس من حل هذه الإشكالية في لبنان الشقيق حالة عادية استثنائية, بسيطة مركبة, سهلة ممتنعة والسر في ذلك هو مايحمله مصطلح المسألة اللبنانية بحيث تندرج أبعاد هذه المسألة في إطار مشاريع خارجية وسياسات كبرى ووقائع متزاحمة متناقضة تتفاعل الآن في الوطن العربي وفي الإقليم وعلى المستوى العالمي.
وأما موقع التجربة المسألة فهو لبنان بجغرافيته وتكوينه البشري والسياسي والحضاري, وحتى هذه اللحظة استطاعت العوامل الخارجية أن تتسرب إلى الساحة اللبنانية ولن يكون الأمر خطراً إلى هذه الدرجة إذا امتلك لبنان الشقيق موقفه بذاته وحصانة كل فعل وحركة فيه, عندها سيتحول العامل الخارجي إلى مجرد رغبة غوغائية تنتج الانفعال عند الآخرين وتحرمهم من أي فعل أو رد فعل ذي مغزى حقيقي, ونستطيع أن نثق بتطبيقات هذه الفكرة ونحن نرى لبنان الشقيق العربي وهو لايزال يحتفظ بخيارين مهمين أولهما استحالة التفجير واللجوء إلى الحرب المسمومة والاحتكام إلى السلاح الغادر الجاني والغامض والسفاك وهذه قيمة لبنانية أكبر منها ميزة سياسية أو اختياراً توافقياً ويشعر كل عربي وكل لبناني بأن لبنان لن ينتحر مجاناً عبر السلاح لكي يقدم لمن يتربص به ولمن يريد استخدامه لمشاريعه الفعل المشين والاختيار الذي بات مستحيلاً في لبنان أو عبر لبنان.
وعلينا هنا أن نستنهض الحقائق من مكامنها, فلبنان مهيأ بانتمائه وتكوينه للحوار والتنوع والاختلاف ومن ذات الميزة هو مهيأ لاستبعاد القتل والاقتتال وخبرته في ذلك تنشر معانيها ومستلزماتها في مساحات قومية وإقليمية عالية الأبعاد, وفي أصل ذلك كان المنهج السياسي السوري يؤسس ويدعم وهو الذي يقوم على قاعدة أن لبنان قوي بقوته وليس بضعفه وأن لبنان ممر للحضارات وتيارات الوعي ومستقر لها وليس مجرد محطة للتزود بوقود الفتنة أو موقع لاستنهاض الاقتتال والاصطراع المجاني لحساب جبهة في الشرق أو الغرب تريد أن تتسلل إلى قلب العالم العربي عبر لبنان صمام هذا القلب.
ويعرف الجميع أن المنهج السياسي والتطبيق السوري أنتج كل مفاعيله في الداخل اللبناني حيث صار لبنان بلد المقاومة وميدان المعارك القصوى مع العدو وحيث رحلت تلك الغيوم السوداء التي كانت تجري التقسيم في لبنان على أساس الدين والمذهب والطائفة وثاني الخيارين اللذين أنجزهما لبنان رغم ملامح المحنة وتعقيدات الموقف إنما تمثل في هذا الدور الذي دخل معه لبنان إلى المحاور الكبرى في الصراعات الأساسية في المنطقة, وهو محسوب اليوم وفي كل القوائم والاحتمالات بأنه بند أساس في الصراع العربي الاستعماري وفي الصراع العربي الصهيوني وفي محاور الصراعات العالمية التي جاء بها النظام العالمي الجديد عبر تفرد أمريكا بالسيطرة والإغراق في الاستهانة بشعوب الأرض والانطلاق تحت سطوة القوة العمياء إلى كل قارات الدنيا, إن لبنان هنا صار كبيراً وأنجز المعادلة المتداولة بأن مقياس الصغر والكبر ليس بالحجم وإنما بالموقف والدور.
ونعود إلى الفكرة الأساس هناك ( مسألة لبنانية ) وهي كما أسلفت تتضمن المأزق ولا تتجاوزه لكن الأمر المهم هو أن تكون حالة البحث عن الحل في نطاق مفاهيم المسألة وضروراتها وليس بالانجذاب المتأرجح نحو مظاهر الأزمة بمادتها السياسية أو بقواها الاجتماعية أو بأطيافها السياسية, إن ثمة قاعدة أفقية وعمودية هي التي تشكل المنظور اللازم للتعامل مع المسألة اللبنانية, ونحن نعلم بيقين أملته حقائق التاريخ وقدمته الخبرة العملية لاسيما في السنوات الماضية أن لبنان هو واسع وقوي حتى يتصل بحدود المسألة, وأن الصراع القائم فيه وعليه إنما يجري لتحويل لبنان العربي الحضاري إلى مأزق وأزمة ونكسة.
وهذا هو جوهر الصراع ومحوره الأساس وهو صراع على لبنان وليس صراعاً في لبنان أو من أجل لبنان, ولنعد إلى ربط الوقائع بمصادرها ودفع الجزئيات نحو كلياتها بدلاً من هذا اللهاث وهذا التقافز المضطرب باتجاه جلد الذات ووهم الاعتقاد بأن الصراع قائم في لبنان أو أنه يمكن أن يكون أبدياً بعد أن حاولت قوى معينة أن تصور هذا الصراع على أنه أزلي, هنا يقع الوضع القائم في لبنان الآن, هو مواقف متناقضة وإرادات متعاكسة من الظاهر يحرج بعضها البعض الآخر ويحاول البعض منها إخراج البعض الآخر بطريقة لعبة المكان الضيق, لكن الحالة في أساسها تختلف عن ذلك كثيراً وهذا مايفسر لنا سلوكين قائمين في لبنان سلوك الأخذ بمبدأ الإحراج بحيث يتهم كل طرف الطرف الآخر ثم يعلن أن لا حل إلا بالحوار والتوافق, وسلوك يعتمد آلية التأجيل واستحداث الذرائع واستحضار التطبيقات التي تؤدي هذا الغرض ومنها الزيارات المفتعلة لعواصم الغرب والاستقواء بالأجنبي والادعاء بأن لهذا الاسم أو ذاك حيثيات مهمة في واشنطن أو في لندن أو في باريس, إن هذين السلوكين لن ينجحا ومعهما خيار الاغتيال المنظم للشخصيات اللبنانية في إبعادنا عن حقائق المسألة كما يعيشها لبنان الآن وكما تمارس بطريقة منظمة متواترة.
هناك مسارات كبرى تصدر إلى الوطن العربي في هذه المرحلة أساسها أن يتناثر هذا الوطن وأن يتكون من جديد على أسس غريبة وغربية, المهم فيها هو إنهاء الوجود العربي والقيم العربية والمنطق الحضاري العربي ويعرف الجميع مهمة الكيان الإسرائيلي في خدمة هذا الاتجاه.ويعرف الجميع دور لبنان القومي العربي المسيحي والإسلامي في الإبقاء على الحاضنة القومية فكراً وثقافة وسياسة وقيماًوتقاليد, الآن يريد المشروع المستحدث أن يقدم لبنان على أنه مهدم بذاته ووسيلة استجرار للتهديم المطلوب في كل يقوم لبنان على أنه مهدم بذاته ووسيلة استجرار للتهديم المطلوب في كل الدنيا العربية, وفي مستوى آخر من صورة المشاريع المصدرة إلى المنطقة بمعدلات عاتية هو هذا التحرك الأمريكي الغربي عموماً للسيطرة على الوطن العربي, لنهب ثرواته ولتدجين قواه الاجتماعية, بحيث يتحول الوطن العربي إلى بقعة مستباحة وتتحول السياسات العربية إلى شروط ووسائل تبارك الموت وتهلل للأجنبي وتتراجع إلى الأوكار والجحور, حيث الطائفية والإثنيات والجهل والتعصب وحيث لغة السيف ولهجة الاغتيال ومنهجية تكفير الآخر ثم تدميره.
إن لبنان العربي يدرك في أعماقه قيمة هذه المسارات الكبرى والصراع القائم فيه ليس كما يبدو وهو بين مجموعات كبرى وصغرى أكثرية وأقلية, إنه التخلق من جديد بين تيارين لا ثالث لهما, لبنان كل لبنان بقواه الحية, بأديانه وطوائفه ومذاهبه, ولبنان كل لبنان بدوره وتاريخه وانتصاراته وفي الطرف الآخر مجموعات مستهلكة من السياسيين التلاميذ المستجدين أو النماذج المرصودة لهذه المرحلة, ولهذا أقول لنتحرك جميعاً على هذا المنطق عندها سينتخب لبنان الرئيس ويشكل الحكومة بيسر ومحبة وتوافق.