حاضرة ثقافية وحضارية بامتياز, منها انطلقت الأديان السماوية إلى الأفق الأوسع وفيها نشأت مظاهر ثقافية تتطور باستمرار وما هذا العام إلا تعزيزاً لموقعها الثقافي المميز بين العواصم العربية.
ومع هذا العام أتذكر صوراً من الماضي حيث كنا زمراً من الكتاب والفنانين والشعراء لنا مقهى مميز نلتقي فيه أوقات فراغنا اسمه الهافانا والذي له تاريخ حافل فيمن كان يلتقي فيه من السياسيين والأدباء والشعراء بل كان مكتباً رديفاً لجريدة النقاد الأدبية الأسبوعية التي كان يصدرها الراحل فوزي أمين وكان مدير تحريرها (دينامو) الثقافة في ذلك الوقت المغفور له سعيد الجزائري, كانت مكاتب النقاد في المبنى المواجه لمقهى الهافانا لكن سعيد الجزائري كان يداوم في المقهى أكثر من دوامه في المكاتب أو مطابع الجريدة في البحصة المجاورة للمقهى وهي حي قديم أزيل من الوجود تماماً.
وفي زمن شحت موارد المقهى ورحل عنه من رحل فتحول إلى محال تجارية وانتبه في ذلك الحين الرئيس الراحل حافظ الأسد طيب الله ثراه فأمر بإعادة المقهى كما كان وأصبح سياحياً تابعاً لفندق الشام وسلسلة فنادق عثمان العائدي, ولكن كان المقهى بناسه وليس بمكانه, فهو الآن مجرد مقهى عادي يؤمه الغرباء أكثر من أهل المدينة ونزح الكتاب والشعراء إلى مقهيي الشام رغم غلاء أسعاره والروضة الذي يختلط فيه كتاب وفنانون وشعراء ومتقاعدون وزوار أجانب فلم يكتسب صفة مقهى الأدباء التي كان مقهى الهافانا يحملها بامتياز.
كان للشاعر العراقي الراحل أحمد الصافي النجفي مكاناً ثابتاً له حيث يتربع بلباسه العربي على كنبة الطبقة الثانية من المقهى, وكان يزور دمشق زيارات كثيرة وكان له بيت صغير في حي الميدان, كان النجفي يتنقل بين بيروت ودمشق وفي بيروت كان له مكانه المميز أيضاً في مقهى (الأزاز) أي الزجاج وفي الحرب الأهلية أصيب بجراح بليغة في إحدى المعارك فنقل إلى بغداد وتوفي هناك عام .1978
وكان من رواد المقهى إذا لم تخني الذاكرة عبد السلام العجيلي ونزار قباني وسعيد حورانية وعادل أبو شنب حتى فترة قريبة قبل سنتين انتقل إلى مقهى الروضة ومحمد الحريري وشوقي بغدادي وعبد القادر قدورة رئيس مجلس الشعب السابق وشقيقه نقيب المحامين السابق نذير قدورة ونصر الدين البحرة ومحيي الدين صبحي ووليد مدفعي وأحمد الغفري وعبد الله عويشق ومحمد المصري وغازي الخالدي ومحمد الماغوط ومحمد حيدر وجان ألكسان وغيرهم بعضهم مازال حياً وبعضهم أصبح في رحاب الله.
وكان يوم توقفت (النقاد) عن الصدور في الستينيات يوماً أسود في الذاكرة الثقافية, إذ كانت وبفضل مدير تحريرها سعيد الجزائري موقعاً ثقافياً مهماً تتفاعل على صفحاتها حركة الابداع بما كان للجزائري من دالة على الكتاب والأدباء كان يدخل بيت عبد السلام العجيلي ولا يخرج منه إلا بمقال أو قصة وكان الشاعر الراحل نزار قباني يقول عن الجزائري إن سعيداً هو الرجل الوحيد الذي باستطاعته سحب قصيدة لي من تحت وسادة سريري.
كان سعيد الجزائري في نفس الوقت رئيساً لتحرير مجلة الاذاعة (هنا دمشق) وكان يقدم برنامجاً ثقافيا مشهوراً في الاذاعة باسم أدب وأدباء إذ كان الرجل رجل ثقافة بامتياز.
البحرة, وكل الكتاب الذين باتوا الآن على سن ورمح كما يقول المثل ولا أبالغ إذا قلت إن جميع المشهورين من الكتاب والشعراء ظهروا أولاً في هذه الجريدة وكانت لدى سعيد الجزائري موهبة في التقييم ,ينشر في العدد الواحد من (النقاد) بين خمس أو ست قصص قصيرة وكان بلفتة ذكية منه يضع القصة التي نالت إعجابه أكثر من غيرها تحت عنوان كبير (قصة النقاد) وكان بذلك يكرس الأدباء عبر هذا الباب وبالنسبة لي شخصياً كان يوم وضع سعيد الجزائري إحدى قصصي في باب (قصة النقاد) يوم فرح بالنسبة لي وأتذكر أن القصة كان عنوانها (الأصدقاء والثمن) فبذلك كرسني كاتب قصة جيد.
على أن ما شغل الكتاب والشعراء باب (قرأت العدد الماضي من النقاد) تحت توقيع جهينة كان باباً مثيراً للجدل خصوصا أن صاحبه مجهولاً إلى أن كشف اسمه قبل ثلاث سنوات فقط فإذا هو الكاتب الكبير عادل أبو شنب حيث الجميع عجزوا عن معرفة الاسم الحقيقي لجهينة.
وفي الحقيقة وشهادة لله لم تستطع كل المجلات والنشرات الثقافية أن تحل محل (النقاد) بما كان لها من تأثير وتفاعل على مستوى الحركة الثقافية في ذلك الوقت.
ووفاء لذلك العهد ومن أجمل ما يمكن أن يقوم به وزير الثقافة السوري الحالي د.رياض نعسان آغا أن يعيد نشر هذه الجريدة الأسبوعية بحلتها كجريدة وبحجمها المعروف (التابلويد) يستلم تحريرها أحد الرواد الذي تأسسوا بها أمثال: عادل أبو شنب وشوقي بغدادي ونصر الدين البحرة أو غيرهم من ذلك الجيل.
وإعادة نشر هذه الجريدة بمحتواها وشكلها إنما إحياء لأهم ظاهرة ثقافية كانت في الخمسينيات والستينيات وتعبيراً عن أن دمشق الثقافة لن تنسى ماضيها الثقافي ولن تنسى فضل مؤسسي الحركة الثقافة في منتصف القرن المنصرم.
أين السر ?!
شيء يشبه المعجزة في دب روح الحياة بأقنية التلفزيون السوري خصوصاً القناة الفضائية وفي بضعة شهور لا تزيد على الثلاثة أصبحت القناة الفضائية مرغوبة المشاهدة على مستوى الوطن العربي وأنا كمغترب لاحظت هذا الاهتمام خصوصاً الجالية السورية في لندن وإن لم تعرف السر فأنا عرفته وقلته في أكثر من مجال إعلامي, إنه الإعلامي عبد الفتاح العوض فمنذ تسلم إدارة هذا الجهاز الخطير والحركة الدؤوبة لا تتوقف في أروقة مبنى الإذاعة والتلفزيون إن إعداد اثنين وستين برنامجاً جديداً في هذه المدة الزمنية القصيرة يعتبر إعجازاً وإن وراءه هذا الرجل الذي لا ينام من أجل جعل القناة الفضائية السورية وتوابعها أجمل الأقنية العربية وأكثرها مشاهدة.
هي صحوة من نوم ويقظة من غفوة( والخير لقدام) كما يقولون.