واليوم تنصرف همة الإنسان في المجتمعات المتقدمة إلى تغذية عقله قبل جسمه، ذلك أن البشرية تنعطف في هذا العصر إلى أخطر مرحلة من مراحل تطورها الإنساني حيث تنقلب من عصر اقتصاد الصناعة إلى عصر اقتصاد المعرفة، فالكتاب يبقى وعاء المعرفة ومصنعها الذي ليس له مداخن شاهقة تنفث الدخان وتلوث البيئة كمداخن مصانع الصناعات والمعامل المختلفة، لذا يجب علينا أن نستوعب ذلك كما يجب أن نعلم أن الأمة التي لا تقرأ لا يمكنها أن تنهض، فالقراءة يجب أن تكون عادة يومية عند الجميع حتى لدى أطفالنا.
ولقد ساهمت الحضارة الأميركية اليوم وللأسف وهي الحضارة التي بهرت العيون وسرقت الأمن والاستقرار وبددت الآمال وأورثت القلق والأحزان حين قامت بتدمير الوعي الإنساني، وأصبح من بعض سماتها المدمرة العزوف عن القراءة واقتناء الكتاب، لا بل وحتى إن العزوف عن القراءة صار من نسج الحياة اليومية للفرد، وبذلك فقد ضاع مجد الحبر وباتت تطغى الصورة (اللغة البصرية) التي تنتجها شاشة التلفاز ومواقع الانترنت بديلاً عن ثقافة الكلمة، وصار الشغل الشاغل للأجيال هو البحث عن مواقع بديلة عن ثقافة الكلمة، وتبدلت الثقافة الحقة وصارت ثقافة استهلاكية، فخذ مثلاً ثقافة الجنس التي تختزل الانثى إلى جسد فقط، وأعضاء مكشوفة لتهيج بها الغرائز وبذا انقلبت الثقافة إلى ثقافة عهر ناهيك عن باقي الثقافات التي باتت ثقافات سحر وشعوذة وكذب وتضليل، وصار الكتاب القيم فيها حالة عابرة في حياة الإنسان ذلك الإنسان الذي وضعوه أيضاً في وضع اقتصادي حرج غير مستقر لا بل ومدمر، مع قلق وهموم وأحزان واغتراب نفسي ووسط تسويق عادات وتقاليد استهلاكية تحاول فيها أن تسرق شبابنا وهويتنا وتطمس تاريخنا ولغتنا، وكان في كل ذلك كتاب الثقافة الملتزمة القيمة بالنتيجة كاليتيم على مائدة اللئيم.
وكان أيضاً أن خرج أكثر شبابنا من عالم القراءة ليلتحقوا في أميّة لاحقة أفرزتها العولمة لتخرب المنظر الإنساني على الشعوب، وقد شكلت هذه الأميّة خطراً كان أكثر تأثيراً من أمية الحرف ومن نتائجها أن باتت الجامعات مدارس ابتدائية مقارنة بثقافة خريجيها اليوم مع ثقافة خريجي الماضي وذلك بالرغم من تقدم العلوم وأساليب البحث والإيضاح.
وكان من أسباب العزوف عن القراءة أصلاً هي التربية الاجتماعية المستهترة وفي مقدمتها غياب التأهيل التربوي عبر المناهج الدراسية، وعدم احتواء هذه المناهج على تنمية وعي الإنسان.
لقد باتت الكتب التي تزدان بها مكتبات المراكز الثقافية وهي التي تحوي ذخائر نفيسة من كتب التراث لتروي ظمأ الباحثين تفتقر إلى قراء وتنادي أين هم؟؟ كما أضحت مكتبات البيوت والمنازل والقصور للزينة والتفاخر والمنظر فقط، لقد صارت من كماليات أناقة البيت وموضة العصر.
إنه الوضع الذي يبعث على الأسى والحزن ويشيع في النفس الخيبة والمرارة وذل الانكسار.
وإليك ما جرى معي وما دعاني للكتابة: حيث كنت اجتاز الشارع في قلب المدينة في يوم صدف أن كانت تهب فيه ريح عاصفة حملت معها صفحة شاردة من جريدة، وشد ما كانت دهشتي وذروة استغرابي حين رفعتها وقرأت ما كتب فيها، فإذا هي صفحات من جريدة وكانت بالضبط من عدد الأربعاء 6 أيار 2009 م والغريب بالأمر أنها كانت من بعض موضوعات الجريدة، المكتوب في هذا العدد بالذات كان هو «فضائل المدن» وقرأت أنه مأخوذ عن مشروع كتاب في جريدة وهذا تصدره منظمة اليونسكو منذ عام 1996م ضمن مشروع نشر بعض كتب تراث الفكر العربي وبالتعاون مع كبريات صحف عواصم العالم العربي، إنه بحث تراثي يستند في تحقيقه لمؤرخين وجغرافيين هم أعلام تراثنا. وماذكر عن المدن في هذه الجريدة يصلح أن يكون مرجعاً أكاديمياً لباحث لأنه محقق أصولاً ويستند لباحثين مشهورين عربياً وعالمياً، وهنا جاهدت لأمسك دمعة كادت أن تسيل على خدي حين تذكرت كيف كان أجدادنا العرب يشدون الرحال ويقطعون الفيافي في سفر شاق ومضنٍ وبعد غياب طويل عن الأهل والبلد ووسط مهالك وحر وقر وجوع وعطش وما إلى ذلك كله إلا حتى يحصّلوا علماً، أو ليتأكدوا من صحة حديث أو خبر، وكم كان يضنيهم البحث في التجوال والترحال والتنقيب في بطون الكتب ومراجعة السجلات والوثائق ليأخذوا المعلومة الصحيحة والمحققة.
واليوم يُقرع جرس «أوكازيون» تنزيلات الثقافة فمعارض بيع الكتب تصل حسوماتها حتى 60 بالمئة ومامن مشترٍ ، ومحاضرات ثقافية قيمة لمحاضرين جهابذة يُعلن عنها ومامن حضور..ومواضيع علمية مهمة تعرض على شاشات الفضائيات ومامن متفرج أو متابع فالمسلسلات التركية و..و..هي الأكثر تسلية والأمتع.
أذكر في ستينيات القرن الماضي كيف كنا نتهافت لنحجز مسبقاً عدد مجلة العربي الكويتية وكانت حديثة الإصدار وغيرها من مجلات بل وحتى مجلات الأطفال ونفرح بفوزنا بعدد منها فرحنا بالنجاح..كنا نتسابق لنحجز مقعداً في المركز الثقافي قبل المحاضرة بساعة..كنا..، وكنا..ونفرح..ونفرح.
واليوم باتت حضارة «الكاوبوي» الغازية التي تحاول أن تذيب حضارات الأمم وتفرض هيمنتها وثقافتها وتخيف بل وتهدد الشعوب بابتلاع ثقافتها وطمس حضارتها وتضييع تراثها ما حدا بهذه الشعوب أن تستيقظ وتتنبه لتتمسك وتحافظ على ثقافتها وتراثها.
وتشتد الريح لتكنس صفحات «كتاب في جريدة» وتطير من أمامي ومعها موضوع «فضائل المدن» واسم الإدريسي وياقوت الحموي وابن بطوطة، والأصطخري، والقزويني، وابن حوقل والحميري، وأبو عبيد البكري..و..و أتحسر وأقول ياخسارتنا فقيمة هذا البحث النفيس هو ثمن الجريدة خمس ليرات فقط لأنه كان قد نشر تحت شعار «الثقافة للجميع»!
ولكن وأسفاه أين هم الجميع؟