كل نقطة في العالم تصلح أن تسمى شرقاً أقصى وغرباً أقصى، فالأرض كروية، وهي تدور باستمرار، ونحن بالنسبة لأوروبا شرق ولكننا بالنسبة للصين غرب، واليابان التي تبدو لنا شرقاً أقصى هي بالنسبة لألاسكا غرب أقصى، وسحر الشرق في الهند هو سحر الغرب بالنسبة للاستراليين.
ولكن في الواقع فإن علينا أن نسلم بحق المنتصر ثقافياً وفكرياً في إعلان ثقافته للعالم، وهذا ما قام به الأوربيون خلال الحقبة الكولونيالية حيث قاموا بفرض الجغرافيا الأوروبية وهو ما أصبح عرفاً سائداً في العالم.
وبشيء من الاستطراد فإن ما قلناه في الشرق والغرب لا ينطبق على الشمال والجنوب الذي يبقى مصطلحاً جغرافياً محايداً بامتياز نظراً لارتباطه بالقطب الشمالي تحديداً، وهو معطى جغرافي محايد، وهنا فإنه لا يمكن وصف غرينلاند إلا على أنها شمال، وأنتاركتيكا لا توصف أيضاً إلا على أنها جنوب.
كان ملتقى الإسلام والغرب في الواقع نشاطاً ضرورياً لبناء الجسور والحوار بين الشرق والغرب، وتأتي جدته وفرادته حيث تبنته هيئة علمية مشهورة بالاعتزاز بالأصالة والمحافظة، ومع أن عدداً من المشاركين في الملتقى قد شاركوا في دورات سابقة، ولكن تجدد زيارتهم لسورية كان تأكيداً لرسالة الحوار وهم معروفون باعتدالهم ووسطيتهم وهم من ذلك النوع الذي كرس حياته للحوار والتفاهم.
لو كنت أتابع هذا الملتقى قبل عشرين عاماً لوضعت عشرين إشارة استفهام، إذ كيف نمكن الأجنبي خليفة المستعمر من آذان الجيل الجديد، وهل هي عودة للاستعمار بلبوس استشراقي ملمع، فتاريخ الاستشراق حافل في خدمة الاستعمار والمستعمرين ووكالات الاستخبارات الأمريكية والأوروبية وشركة الهند البريطانية إلى آخر تلك الظنون التي تعودنا أن ننثرها كلما وقفنا أمام الآخر الأجنبي المختلف عنا في الدين والثقافة.
ربما كانت هذه الريب مبررة إلى حد ما في الفترة التي كنا نكسر فيها أغلالهم عن أعناقنا ونحن نتنسم عبير الحرية في أعقاب الاستقلال، ولكن هذا الموقف المعادي لكل حوار أدى إلى هدم جسور كثيرة من التواصل بيننا وبين شعوب الأرض، ووجدنا أنفسنا نحن أبناء العالم الثالث نكسر عن عمد وسائل اتصالنا بهذا العالم، وكتب علينا أن نكون أكبر الخاسرين في عصر العولمة حيث يمتلك الغرب التكنولوجيا والقدرات والمعارف في حين أننا نغلق هذه الأبواب ونحول دون وصول العرفان والنور إلى أنفسنا وشعوبنا.
لقد سمعت مراراً خطباءنا الأشاوس وهم يتحدثون بفخر أن الإسلام حطم الحضارة الفارسية وحطم الحضارة الرومانية، وكان الحديث عن تحطيم الحضارات يبدو طبيعياً في سياق هدم الجاهلية وبناء ثقافة الإسلام.
ولكن أدنى تأمل لسياق الرسالة الخاتمة تجعلك تقول بكل ثقة أن الإسلام لم يدمر وإنما كان يعمر، ولم يخرب وإنما كان يهذب ويؤدب، وكانت القاعدة الذهبية التي حكمت علاقاتنا بالعالم هي قول الله تعالى: نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم.
إنني مؤمن تماماً أن ما جاء به الوحي العزيز هو عينه ما توصل إليه الإنسان في كفاحه الحضاري، وقد كنت سعيداً بمراقبة هذه النتيجة مخبرياً في الحوار الأخير، فمعهد الفتح الإسلامي معروف بأسلوبه المحافظ وتمسكه الشديد بالتراث الإسلامي ومع ذلك فإن الأصالة والتراث لا تعني أن كل قديم يؤخذ ولا أن كل جديد ينبذ، ووجد القائمون على هذا المعهد أن التواصل الحضاري ضروري بين شعوب الأرض وأن الغرب والشرق ينبغي أن يترافدا في بناء الشكل الحضاري لمستقبل الإنسان.
وكان في المحاور التي عقد فيها هذا المؤتمر محور المسيحيون العرب ودورهم الحضاري في حمل رسالة السلام بين الشرق والغرب، وخصص المؤتمر محوراً خاصاً بعنوان المشترك بين الرسالات السماوية ومحوراً آخر لقضايا حوار الحضارات والأديان، وذلك كله يعكس حقيقة طالما غابت في سياق خطابنا الإنشائي الغاضب الذي يرسم العالم في جاهلية سوداء في حين أننا وحدنا نحمل مشاعل الحضارة والنور والخير.
في لقاء حواري كهذا لا ينظر إلى الكندي على أنه قادم من الضلال المبين، ولا يدعي السوري هنا أنه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولا يخاطب الكندي بمنطق أسلم تسلم وإن توليت فإن عليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وإنما يخاطب بصيغة قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.
وليس هذا الموقف بالطبع تنكراً لخطاب أسلم تسلم، أو تشكيك فيه فهو خطاب النبي الكريم نفسه، ولكنه كان موجهاً للحاكم الرومي المحتل الغازي لأرض العرب، وليس للعربي المسيحي أو اليهودي أو الصابئي الذي كان يبحث عن حرية دينية لم يجدها أبداً إلا في ظلال الإسلام.
في حوار كهذا يعلو صوت العقل، ولا يصح أن يقاس نجاح المؤتمر بعدد الذين تحولوا فيه إلى الإسلام، وتبرؤوا من ثقافاتهم الأولى، وطعنوا في كتبهم وأديانهم، بل يقاس نجاح المؤتمر بعدد الجسور التي نصبها بين الشرق والغرب للحوار والتفاهم والمشترك الإنساني، وعدد جدران الكراهية التي تم هدمها بوسائل البصيرة والوعي والمعرفة واكتشاف المشترك الديني والإنساني، وهي حقيقة نبه إليها نيوتن بقوله :إن الإنسان بنى كثيراً من الجدران وقليلاً من الجسور.
وبعيداً عن سياق الندوة المذكورة فإن علينا أن نعترف أننا مستعدون للحوار مع الآخر المختلف عنا في العقائد بشكل جذري من نصارى وعلمانيين واضحين، بل بوذيين ويهود ولكننا فيما يبدو لسنا مستعدين بعد للحوار الداخلي فيما بيننا، ففيما ابتكر الفقه الإسلامي الجديد مصطلحات محترمة للآخر المختلف دينياً وعقائدياً وتاريخياً فتم وصفه بأنه ذمي أو معاهد وهي أوصاف نستخدمها اليوم بدلاً من الأوصاف التي كانت شائعة في الفقه القديم باسم كافر أو مشرك، وها نحن نرحب بهم على أنهم معاهدون وذميون ومحاورون وباحثون عن الحقيقة ومنصفون وشرفاء ومخلصون وغير ذلك من الألقاب الكريمة التي نمنحها لهم وفاء لأهداف الحوار النبيلة واستجابة لمنطق العقل، ولكننا لا نزال نبخل بهذه الألقاب أو بعضها للآخر المختلف عنا فكرياً في إطار العقيدة الإسلامية وثوابتها ولا زال الآخر المختلف من أهلنا يلقب بالضال والمبتدع والزنديق والمرتهن والمأجور، ويكفي للتأكد من ذلك أن نطوف في جولة سريعة على الأنترنت، وحين تكتب كلمة «الضال المضل» في برنامج غوغل فستجد في هذا الباب معظم من تحبهم وتحترمهم من مفكري الإسلام وعلمائه، صوفيين وسلفيين، وظاهرية ومؤولة، وسنة وشيعة، حيث وضعهم خصومهم في دائرة الضالين والمضلين والمبتدعين والزنادقة.
ولا نحتاج للتأكيد بأن الذين كتبوا هذه الأوصاف بحق المخالفين لم يكونوا كفاراً وملاحدة بل كانوا مصلين ومتقين وصائمين، ولكنهم يختلفون معهم في فروع من المذهب فقط!!
مرحى للحوار المفتوح مع مراكز المعرفة في الأرض، حواراً يقوم على أساس التكامل والمشترك الإنساني، وليس على منطق سحق المختلف وإلغائه وتحقير ثقافته، حواراً نهدف فيه بالفعل أن نعلم ونتعلم، وأن نؤثر ونتأثر، وأن نتبادل الخير والمنفعة والعلم والحكمة، ولا يقيم فريق من المتحاورين نفسه مقام الرخ ويقيم أخصامه مقام البيدق، حواراً يتأسس على منطق القرآن الكريم: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.