أولئك الذين عرفوه عن قرب وحالفهم الحظ بالعمل معه جنباً إلى جنب,
كانت لديهم إمكانية أن يشاهدوا بأم أعينهم ويلمسوا, ليس فقط معاناته وعذابه خلال العمل الإبداعي ولكن غضبه ويأسه وثورته أيضاً خصوصاً عندما كان يصطدم في لحظات انطلاقه الطموح بعدم فهم الناس له وبشرور تعلقهم بالتفاهات وبمحدوديتهم, لقد كان حازماً, وكان الفن بالنسبة له أعلى من أي شيء آخر).
بهذه الكلمات يحكي الكاتب والروائي أركادي ستروغاتسكي عن المخرج العالمي أندريه تاركوفسكي.
يمكن لقارئ مسيرة حياة هذا المخرج أن يستحضر أشعار والده الشاعر أرسني تاركوفسكي: (لا الوشاية, ولا السم لست أهرب, فلا وجود للموت في هذا العالم, كل شيء أبدي, أبدي, لا يجب أن نخشى الموت, لا في السابعة عشرة, ولا في السبعين, توجد فقط حقيقة ونور, لا ظلام, لا موت في هذا العالم, ونحن الآن جميعاً على الشاطئ البحري, وأنا أحد الذين يختارون شباكهم, عندما تمر الأبدية أسراباً).
كان باسترناك يعتقد أن المبدع الحقيقي رهينة الأبدية, لكنه واقع في أسر الزمن, وفكرة باسترناك هذه بحاجة إلى تعديل عند إسقاطها على تاركوفسكي الذي لم يكن يشعر بنفسه أسيراً, لقد عاش في زمنه وبعيداً عنه, رفض كل الشروط المسبقة والتهديدات الضيقة, وقد كتب عليه أن يتعلم هذا الرفض منذ طفولته وصباه وهما الفترتان الصعبتان في حياته, لقد افترق والداه وهو لم يتجاوز الثالثة بعد وقامت أمه برعايته وشقيقته الصغيرة, معتمدة على راتب مصححة طباعية ضئيل, ولهذا السبب ربما حاولت ألا يشعر ابنها بنفسه أسيراً للحاجة والعوز, فألحقته بمدرسة للرسم والنحت وبدروس خصوصية للموسيقا, متأملة أن يصبح أندريه الصغير موسيقياً في المستقبل, لكن هذه الدروس لم تحدد مهنة المستقبل بل مكنته من ملامسة الفنون الراقية والأبدية.
وفي شبابه عمل أندريه في بعثات جيولوجية, ثم انتسب إلى معهد اللغات الشرقية حيث جذبه حبه لثقافة الشرق وتقاليده, وعندما أصبح مخرجاً معروفاً كان تاركوفسكي يتحدث ويكتب باستمرار عن صلاته الروحية بفن الماضي وخصوصاً الأدب الروسي العظيم في القرن التاسع عشر, وإبداع تولستوي ودوستويفسكي.
إن الفن الرفيع يتأثر بالعصر, والظروف التاريخية, والمثل الإنسانية العليا التي يحملها والتي لا يستطيع الزمن انتزاعها وتحطيمها, هي التي تحدد أبديته واستمراريته.
تكمن مأثرة تاركوفسكي السينمائية في أنه أصبح بعد سنوات الحقبة الستالينية واحداً من الذين دافعوا عن قيمة الفن واستقلاليته, وكان يطمح أن تكتسب أفلامه هذه القيمة وتتوافق بالتالي مع المهمة السامية التي أداها الفن على مدى العصور.
السينما - فن وهي ليست كذلك فقط لأن مادتها تتكون من (الزمن المسجل) حركات, وأفعال, أحداث يقوم بها الممثلون, ولكن لأن السينمائي لا يستطيع أن يعمل مثل الكاتب ويبدع أفلامه في عزلة وسكون مكتبه.
إن السينمائي بحاجة إلى آلة الإنتاج الضخمة حتى يتمكن من تحقيق فكرته وتشغيل هذه الآلة يتطلب وسائل وإمكانات مادية ضخمة, إن الفيلم مقيد بإحكام إلى زمنه, إلى اللحظة الحالية, ويجب أن يباع الآن فوراً حتى تتمكن آلة الإنتاج من الاستمرار, أما تاركوفسكي فكان يطمح للابداع دون الاعتماد على النجاح الفوري السريع, ومن أجل أن يتمكن الناس في أوقات لاحقة من رؤية أفلامه مثلما يرون أنفسهم في المرآة والمرآة هي صورة تاركوفسكي المحببة والموجودة في أفلامه كلها.
أدت المهمة التي وضعها نصب عينيه إلى اصطدامه بالجهاز الإداري لآلة الإنتاج السينمائي, فانهالت العقوبات عليه: رفضت مشاريعه, أهملت أوراق عمله ووضعت أفلامه على الرف أو كانت تعرض لفترة قصيرة وبعدد محدود جداً من النسخ بحيث بقيت غير معروفة بالنسبة للجمهور تقريباً.
في عام 1982 وبعد أن انتهى من تصوير فيلم (الحنين) في إيطاليا, لم يعد إلى وطنه وبقي في الغرب, لقد كان مضطراً لمثل هذا القرار الذي لم يفرضه عليه قلق بصدد راحته واستقراره وإنما الدفاع عن قيمة الفن السينمائي الذي كان يؤمن به ويحرص عليه كشيء مقدس وبدأ تشرده في الغربة وتنقله من مدينة لأخرى ومن بلد لآخر.
بدأ بحثه عن الدار والمأوى الدائم, ولم يكن يشعر في مكان بالقرب من الناس والأرض مثلما كان يشعر في وطنه, بل كان يبتعد بشكل واع عن الأرض الأخرى والناس الآخرين لدرجة أنه لم يكن راغباً حتى في تعلم الكلمات القليلة والضرورية جداً للحياة اليومية الغريبة عنه, وأدى إحساسه بالوحدة والغربة إلى تفاقم مرضه, وفي عام 1986 مات.
تاركوفسكي مات بسرطان الرئة في باريس, كان يدافع عن سينما تستحق أهميتها ومهمتها الرفيعة, لكنه أحرق نفسه في هذا الصراع وسقط ضحية له.
دخل تاركوفسكي عالم السينما الاحترافية بفيلم (طفولة إيفان) وهذا الفيلم لا يدل على محاولة للتعلم بقدر ما يشهد على ثقة المخرج بنفسه, لأنه سوف يطرح منذ فيلمه الأول مواضيع وأفكاراً لن يتخلى عنها فيما بعد, حتى إن فيلمه الأخير (القربان) يتلامس مع (طفولة إيفان) من خلال عدة نقاط مشتركة.
جان بول سارتر كتب عن (إيفان) أنه (وحش كامل, رائع, شنيع).
يؤكد تاركوفسكي أن عمل السينمائي يكمن في (نحت الزمن) أي خلق (سيل زمني شخصي) مؤلف من ديناميكية المقاطع والأجزاء المسجلة, وهذا النحت يشبه عمل المثّال الذي يخلق من أكوام الطين إبداعه الحجمي ذا المقاييس الثلاثة.
إن الفنان الذي يعيش خلافاً لزمنه يكون إنساناً غير مفهوم, وقد اصطدم تاركوفسكي بعدم الفهم إلى حد كبير, لهذا تغدو ميزة التعمق والتأني في فهم أفلام ستارفكسي ميزة لابد أن ترافقنا ونحن نشاهد أفلامه.
الكتاب: أندريه تاركوفسكي, سينماه, حوارات معه, وسيناريوهان.
ترجمة: باسل الخطيب, صادر عن وزارة الثقافة, الفن السابع.