إنه الفنان الوحيد بلا منازع الذي استطاع أن يتابع مسيرته الناجحة بكل المقاييس بعيداً عن الأقنعة التي أنهكت عقولنا وشاشاتنا, وجعلتنا نفكر ألف مرة قبل أن نشاهد لقاء لفنان نحبه خشية أن يصدمنا بأقنعة وانفعالات غير مفهومة ولا مبررة!
جلس الوسوف في المكان المخصص له وأخذ يتكلم فأشعرني بأنني أجلس مع صديق لي في المقهى, يتحدث بلغة أعرفها وأفهمها, لغة بعيدة عن التكلف والافتعال, أجاب عن الأسئلة التي رآها مناسبة, وتجاهل الأسئلة التي شعر بأنه لا يرغب في الرد عليها, هكذا بكل بساطة كان الوسوف يقود الحلقة باقتدار دون أن يدري, لقد أتى مرتدياً ما يريد وقال ما يريد, ثم انصرف تاركاً خلفه تساؤلات كثيرة حول الفن الحقيقي وما يمثله والهدف المراد الوصول إليه من خلاله!
لن أخوض في تفاصيل أغانيه الجميلة وأدائه الرائع, لأن هذا الموضوع أصبح قديماً ولا يوجد ما أضيفه في هذا المجال, بل أكتفي بالتحدث عمّا جسده الوسوف, الإنسان السوري البسيط, ابن الكفرون الدبلوماسي الرقيق بالفطرة الصلب عند الضرورة الملتصق بالناس الذين يشبهونه ويشبههم أتحدث عن الوسوف الإنسان الذي لم يأت مستعرضاً وسامته ولا ثقافته ولا تاريخه الفني الكبير, كما جرت العادة, بل جلس هناك كأي شاب عادي, يتحدث ويلقي بالنكات, فهو يعرف بالفطرة أن الفن ليس بالكلام أو المظهر, إنه يعرف, بالفطرة أيضاً, أن منبره الوحيد كفنان هو المسرح, وأنه بمجرد أن يغادر مسرحه يتحول تلقائياً إلى إنسان عادي كالجميع, يتحدث كالجميع, يغضب كالجميع, وربما يخطئ كالجميع!
كان الوسوف وفياً كما هو دائماً, فأكد على أنه فنان سوري بالدرجة الأولى, دون أن يغفل فضل لبنان وحبه له, ولخص الكثير من المشاكل والمهاترات بكلمات نرددها كل يوم, فلم يعط الحديث أكثر مما يستحق, لأنه بعفويته يعرف أنه ليس هنالك مشاكل بين الأهل, وأن أكبر خلاف يمكن أن يصبح طي النسيان بمجرد اللقاء و(تبويس الشوارب).
ويجب الإشارة هنا إلى مقدم البرنامج (نيشان) الذي يستحق العلامة كاملة في فن تقديم البرامج, فهو ترك مطلق الحرية لضيفه, وكيّف نفسه مع مزاجه المختلف, ولم يحاول أبداً أن يفرض أسلوبه أو مفرداته بل على العكس تماماً, فهو تماشى مع مزاجية الوسوف, واستخدم مفرداته, وترك له حرية التحرك والحديث, ولم يتدخل إلا عندما شعر بأنه يجب أن يتدخل كمقدم ومعد محترف ملتزم بأوقات وتفاصيل تقنية لا يعرفها ضيفه.
هكذا يكون الفنان الحقيقي, فهو أولاً وآخراً واحد من الناس, جزء لا يتجزأ منهم, هو امتداد لهم وهم امتداد له, هم يميزونه بفنه, وهو يميزهم باحترامه لهم ولوجودهم وللغتهم ومفرداتهم وحتى مظهرهم.
ألا يستحق فنان مثل الوسوف, بتراثه الكبير وفنه الجميل, أن يلقى في بلده الأم أضعاف التكريم الذي يلقاه في مختلف المحطات التلفزيونية الأرضية والفضائية والأقطار العربية? هذا مؤكد, مع تحفظ بسيط, فأنا لا أتخيل الوسوف يجلس قبالة مقدم برامج يفرض عليه ما يجب أن يقول ويتعبه بمصطلحات معقدة, تبدو كبيرة إلا أنها خالية من أي معنى! شكراً أبو وديع, فأنت صادق ووفي وعفوي وفنان, وقبل كل هذا وذاك, إنسان!