يقول هاس: مضت مرحلة القطب الواحد وهيمنة النفوذ الأميركي غير المسبوق على العالم إلى غير رجعة, وذلك بعد مرور عقدين من الزمن ليس إلا, أما لماذا حصل هذا الأمر? فيجيب الخبير الدولي (هاس) قائلاً: استحالة التصدي لنزول قوى عظمى جديدة إلى الساحة السياسية, ألم تعزز المستجدات الطارئة على زيادة في أعداد القوى الإقليمية القادرة على استخدام نفوذها المتنامي للتأثير على دوائر صناع القرار في العالم? ولا يعود الأمر في هذا التحول إلى ضعف الولايات المتحدة, بقدر ما يرجع إلى نمو دول ذات كيانات غدت حالياً أكثر قوة ومنعة.
أما السبب الآخر لنهاية مرحلة أحادية القطب فيتعلق بالسياسة الأميركية سواء كان على صعيد ما حققته أو فشلت في تحقيقه.
لقد مهدت حكومات واشنطن لقيام مراكز قوى جديدة في أنحاء العالم ساهمت بشكل أو بآخر في إضعاف مواقعها وعلاقاتها بتلك المراكز, وتعتبر السياسة الأميركية الخاصة بمشكلات الطاقة والتي تناولت علاقات واشنطن بجيرانها على سبيل المثال إحدى الأسباب الكامنة وراء القضاء على ما يسمى أحادية القطب الأميركي, فتفاقم أزمة النفط منذ السبعينيات من القرن الماضي شجع على نمو الاستهلاك الأميركي لهذه المادة الخام بنسبة 20% ومن ثم ساهم في ارتفاع أسعار البترول عالمياً ليقفز من 20 دولاراً بالنسبة للبرميل الواحد إلى أكثر من 120 دولاراً وكنتيجة لذلك انتقل النفوذ السياسي ليتمركز في أيدي دول تمتلك احتياطي من الطاقة لم يحسب لها حساب من قبل, وقامت السياسة الاقتصادية الأميركية بدور فعال على هذا الصعيد من خلال اندلاع حربي أفغانستان والعراق وخاضتها إدارة الرئيس الحالي جورج بوش رغم تكاليفها الباهظة بالمال والعتاد والأرواح لتتمخص تلك الحرب عن زيادة في الإنفاق العسكري بنسبة 8% سنوياً, وبالتالي تقليص موقع الولايات المتحدة مالياً إثر إصابتها بعجز تجاوز 100 بليون عام 2001 قفز هذا الرقم إلى 250 بليون دولار أميركي عام 2007 لتسجيل الميزانية الأميركية بالنسبة للعام الجاري عجزاً ابتلع 6% من الناتج المحلي الإجمالي وأدت تلك المستجدات إلى فرض مزيد من الضغط على الدولار الأميركي وبالتالي إلى ارتفاع نسب التضخم في الولايات المتحدة, وعملت تلك السياسة المالية إلى تراكم الثروات في أيد دول نامية ناشئة كدول الخليج العربي وتمركز السلطة في أماكن أخرى خارج أميركا وتدخلت العولمة وأزمة الائتمان في المصارف الغربية لتصب الزيت فوق نار الركود الاقتصادي داخل الولايات المتحدة.
ويرتبط كذلك تراجع عصر احادية القطب الأميركي ليس فقط بحماقات سياسات إدارتها الحالية, وإنما نتيجة العولمة التي ساهمت في التدفق السريع عبر الحدود الحالية للمخدرات, والبريد الإلكتروني وغازات البيوت البلاستيكية والبضائع الرخيصة.
لكن في حال طويت مرحلة أحادية القطب الأميركي, من الذي سيحل مكانها? تتوقع شريحة من المراقبين عودة ثنائية القطب التي ميزت العلاقات الدولية خلال الحرب الباردة, فالقوة العسكرية الصينية الناهضة اليوم تتجاوز القوة الأميركية عدداً, وإن لم تجاريها عتاداً وتكنولوجيا, لأن تركيز الصين ينصب على النمو الاقتصادي حالياً, وهو خيار يقود إلى التكامل الاقتصادي ويجنبها الصراعات, في حين تنزع روسيا باتجاه إعادة خلق عالم ثنائي القطب وتتوقع شريحة أخرى صعود عالم جديد متعدد الأقطاب بحيث تواجه كل من الصين والهند واليابان وروسيا والاتحاد الأوروبي من جهة, والولايات المتحدة من جهة أخرى, باعتبار تلك الأخيرة قوة مهيمنة ذات نفوذ, إلا أن هذه الرؤية تتجاهل المستجدات والمتغيرات الطارئة على عالم اليوم, وهناك عشرات من مراكز القوى تضم القوى الإقليمية والمنظمات الدولية والشركات والحركات الدينية واتحاد منتجي المخدرات والمنظمات غير الحكومية, ما يعني أن العالم الذي سيخلف الأحادية الأميركية لن يكون ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب, لا بل سيتحول إلى عالم غير قطبي, وفي هذا العالم المستقبلي لن يكون باستطاعة الولايات المتحدة بناء سياساتها الخارجية على أساس تصنيفها المعروف لدول العالم (من ليس معنا فهو ضدنا).