عندما تأخذك الصورة نحو متعة الدلالات المستبطنة في التشكيلات السينمائية وكثافتها الرمزية فأنت تشاهد فيلما إيرانيا لمجيد مجيدي. ( رشح فيلمه أطفال الجنة للأوسكار 1999),
أغنية العصافير فيلم منسوج بحرفية من كل كادر فيه.
ثمة أطفال يبحثون عن سماعة احداهن ضاعت في خزان مياه قذرة. يتوقون لأن يصبحوا مليونيرية يتاجرون بالورد الأحمر على الطرقات ثم يجهدون انفسهم في نقل أصص الزهر مقابل عشرات الأسماك لكي يضعوها في الخزان بعد تنظيفه حيث يتاح لها أن تتكاثر انتظارا لبيعها في عيد النوروز, مع كل ما تعنيه رمزية السمك في الثقافة الإيرانية من أمل جديد وحياة متجددة ..فجأة يكتشفون أن برميل نقل الأسماك مثقوب والأسماك حلمهم غدا مهددا بالموت..وفي مسعى لإنقاذها يسقطون جميعا ويضيع الامل لكنهم ينقذون السمكة الكبيرة فقط رمزيا..
الأب ( رضا ناجي , جائزة أفضل ممثل في مهرجان برلين )حين يفقد عمله في مزرعة النعام لأن إحدها هربت خارج الأسوار..تأخذه المدينة ومع الكسب الجديد ينقل خرداوات وقمامة المدينة الى منزله هذه القمامة والمال لايغيران فقط من طبيعة فضاء المنزل الريفي الجميل والبسيط الذي يقطنه بل يغيران من روحه فيرفض التنازل عن باب مستعمل لأحد الجيران ويستعيده في مشهد مفعم بالدلالات..يحمل الباب الأزرق على ظهره وهو يسير في حقل محروق..اللقطة من أعلى ..الباب مفتوح على السماء وهو ينوء تحته موليا ظهره للباب وللسماءمنكبا على الأرض التافهة المحروقة..مع زخم العلامات الاجتماعية والدينية والاقتصادية ندرك من هذا المشهد حجم التحول الذي أحدثته قمامة المدينة..وفي منزله تسقط عليه الخردوات فتنكسر ساقه ويهب الجميع لمساعدته..المشهد الذي ينكسر فيه هذا الرجل يذكرنا بمسرحية يوجين يونسكو (المستأجر الجديد) لكن التوظيف السينمائي يعطي الفكرة بعدا جديدا.
وفي اللحظة التي يكتشف فيها الرجل- وهو مكسور الساق في غرفته- بأن العصافير لكي تغني لا تحتاج إلا الى القليل فيفتح لها باب غرفته لكي تعيش بسلام, هنا يأتيه خبر عودة النعامة المفقودة إلى المزرعة ومعها يأتيه خبر إعادته إلى عمله.
في فيلم (أغنية العصافير) كما في أفلام مجيدي السابقة اشتغال مزدوج يقوم على تصعيد التكوين السينمائي من صورة وأداء وحكاية وبنية مجتمعية و..الى أقصى درجة شرطها الوحيد ألا تبدو مفتعلة. وهذا ما يجعل سينما مجيدي قابلة لإمتاع الجمهور في مستوياته المختلفة..هو يختار نقطة تقاطع بين ما يريد قوله وبين ما يغري معظم فئات الجمهور الذوقية بمتابعته, ويبدأ منها نسج فيلمه..القبض على هذه النقطة غير متاح إلا لمن خبر أسرار الابداع.
كثافة المعادل البصري
يبني مجيد مجيدي سينماه قطعة قطعة وفق تشابك المفردات البصرية أولا ثم السمعية وأخيرا الفكرية. فما نتابعه صورة بصرية يتبعها بفارق بسيط الصوت (من حوار ومؤثرات وموسيقا..) وتاليا تتكون الأفكار التي تفتح ذهن المتلقي على التحليل والتأويل للذهاب إلى أقصى مدى من الاحتمال الدلالي..البطل على سطح المنزل يصلح هوائي التلفزيون يشعر برطوبة منعشة يلهي الاطفال بمتابعة تغيرات الصورة في الأسفل ويسأل زوجته ان تصعد إليه ليناما هناك! لا تمانع بل تطلب المزيد.. أن يقطع زر كنزته ويرميه من أعلى لتستقبله بحرج فستانها المرفوع وهي تنتشي ضحكا!!
يكاد هذا المشهد يكون استهزاء فنياً من المشاهد الجنسية في الأفلام الغربية.
السينما في الفيلم ممتدة من أول كادر حتى آخره..