تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


قراءة قانونية في النتائج الأولية للتحقيق بجريمة الاغتيال

دراسات
الأحد 13/11/2005م
القاضي غسان أسعد

بعد صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس وقبل تسليمه للأمين العام للأمم المتحدة السيد كوفي عنان,

كثرت التحليلات والاستنتاجات إلى حد أن ما تناقلته وسائل الإعلام الإسرائيلية خاصة والغربية عامة كان متطابقاً إلى حد كبير مع النتائج الغامضة التي وصلت إليها تحقيقات ميليس الذي حاول تفسير ما جرى على الأرض دون التعمق بالبحث عن الحقيقة التي رفعت شعاراً منذ البداية لا بهدف الوصول إلى من قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري بل للوصول إلى أهداف سياسية على الأرض, استناداً إلى مشاريع ومخططات تستهدف هوية المنطقة ومستقبلها ولمصلحة إسرائيل والمشروع الأميركي.. إن اللجنة وما توصلت إليه من نتائج لم تكن تهدف إلا إلى الوصول لنتيجة واحدة هي توجيه الاتهام للجمهورية العربية السورية كونها بقيت عصية عن دخول بيت الطاعة الذي تريده الولايات المتحدة وإسرائيل, وبما يفرض في المنطقة منظومة لا معارض لها, المستهدف فيها تاريخ المنطقة وهويتها ومستقبلها..التقرير صدر عن اللجنة الدولية (غير المستقلة) وقد قرأنا وقرأ العالم التقرير الذي لم يقبل بنتائجه إلا الجهات التي كانت وراء النتائج الواردة فيه وهي جهات معادية لسورية ومواقفها ولم تضمر هذا العداء على الإطلاق بل كانت ظاهرة في عدائها ومواقفها العدائية.‏

إن إشارات الاستفهام والتعجب والاستنكار تحيط التقرير بمعظم جوانبه حتى إن ميليس ووفق بعض وسائل الإعلام قد أفاد لأحد مندوبي الدول الكبرى, أن طلباً وجه له بإضافة أسماء إلى التقرير.. هذا دليل على أن التقرير جاء بعيداً عن المهنية في إعداده, وقبل ذلك من خلال مجريات التحقيق هذا إن كان هناك تحقيق مهني ومستقل وحيادي.. بل إن التقرير جاء محاولاً إيجاد التفسيرات لما جرى باستنتاجات من الخيال الواهي ولم يعمل للوصول إلى الحقيقة على الإطلاق.‏

وهنا لابد من إبداء الملاحظات التالية وذلك بفهم قضائي وعلمي قانوني وبمهنية بحتة لما ورد في التقرير:‏

أولاً: لقد اعتمد التقرير الضبابية في معالجة ومناقشة الوقائع والأدلة دون تحديد أو توصيف للوقائع والأدلة وبحيث أن النتائج المتناقضة التي آل إليها التقرير تؤكد ذلك, فالتقرير يتهم سورية وبنفس الوقت يشير إلى البراءة, وإن التقرير غير نهائي وغير مكتمل وبالتالي فإن إصدار قرار الاتهام دون أدلة كافية ولمجرد أن وجود سورية في لبنان تحملها المسؤولية لجريمة كبيرة وخطيرة كمثل هذه الجريمة, إن مثل هذا الاستنتاج يوجب أن تكون كل الأنظمة الأمنية في العالم موضع اتهام وعلى معيار التحقيق الدولي فإن الأنظمة الأمنية والسياسية الأميركية يجب أن تكون متهمة بأحداث أيلول, وإن الأمن البريطاني مسؤول جنائياً عن أحداث تفجيرات مترو الأنفاق بلندن, كما أن الولايات المتحدة مسؤولة مسؤولية كاملة عبر الجرائم التي تقع في العراق ضد المدنيين وعن كافة الأعمال الإرهابية وذلك كمسؤولية جنائية..‏

إنه استنتاج ضعيف ولا يمكن لنظام قضائي مستقل ومحايد أن يقبل بمثل هذه الاستنتاجات الضعيفة.‏

ثانياً: إن حرية القاضي في الاقتناع بالأدلة المطروحة عليه لا يجوز أن تفهم على أنها حرية تحكمية أو غير منضبطة بل حرية لها أصول وضوابط يجب اتباعها حرصاً على صيانة الحق وحفاظاً على قدسية العدالة وحسن تطبيق القوانين والأنظمة, وأهم الضوابط هي:‏

1- تعليل وتسبيب ما توصل إليه التقرير وذلك باشتماله على العلل والأسباب الموجبة ولا يكفي لذلك أن يعدد القرار الأدلة, بل على المحقق أن يحدد ويناقش الأدلة التي أخذ بها وإلا يكون قاصراً.. وهنا نلاحظ أن لجنة التحقيق اعتمدت أدلة ناقصة بحيث اقتطعت الأقوال وأخذت بجزء منها دون بيان ذلك وأسبابه ووضعت أجزاء من الأقوال خارج المناقشة ودون بيان المسوغات حتى أن أحد الشهود استغرب ذلك ولم يجد مبرراً له..?!‏

2- القضاء مؤسسة عدل مهمتها الحكم بالعدل والقسط ولا يكون ذلك إلا بإبراز الوقائع واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض تدعمها الأدلة القاطعة والحاسمة التي لا يتطرق إليها اللبس, وإن مجرد أن يحدد القاضي لنفسه النتيجة قبل البحث في المقدمات إنما ينحرف عن المهنية والحيادية.. وإننا نلاحظ أن اللجنة وقبل البدء بالتحقيق حددت لنفسها هدفاً عملت إليه وهو اتهام سورية, ما يؤكد أن اللجنة لم تبحث عن الحقيقة التي شكلت من أجلها بل إنها جاءت لأهداف سياسية أصبحت واضحة لكل ذي بصر وبصيرة.‏

رابعاً: ثابت أن بعض الموقوفين تمت مقابلتهم مع شهود (كما جاء في التقرير) وهم مقنعون وبحيث أن المشتبه به الموقوف لم يتعرف على الشخص الذي يقابله, ففي ذلك مخالفة صريحة لأبسط قواعد التحقيق والمنطق, بحيث أنه لتتم عملية المقابلة بين موقوف وشاهد يجب أن تكون بصورة واضحة وعلنية وأن أسلوب اللجنة هنا لم يخرج عن كونه أسلوباً بوليسياً هدفه إرهاب الموقوف نفسياً ومعنوياً وليس الوصول إلى الحقيقة.‏

خامساً: الشهود: يلاحظ من قراءة التقرير أن تركيزه جاء على إفادات بعض الشهود الذين اعتمد عليهم التقرير بنتيجته وهم من أصحاب المواقف المعادية لسورية والذين لهم المصلحة بالإساءة لها ولمواقفها واتهامها, والذين لم يوفروا مناسبة إلا وعملوا من خلالها لتوجيه الاتهامات لسورية, إن هذه الشهادات جاءت غير منسجمة وكل من أصحابها أدلى بشهادته بصفة يختلف عن الآخر مع الإشارة إلى أن الشهادات جاءت بحضورهم جميعاً في مجلس الرئيس المغدور رفيق الحريري.. ولهذا فهي لا تصلح دليلاً لأنها محرفة ومضللة ولأصحابها مصلحة في ذلك خاصة أنهم وبعد الجريمة النكراء مباشرة كانوا قد حضروا البيانات وأطلقوا الاتهامات باتجاه واحد, أليس في ذلك الكثير من إشارات الاستغراب والتعجب?!‏

إن الأمر المستغرب هو ابتعاد اللجنة عن البحث والتقصي عمن كان وراء ظهور شخصية محمد زهير الصديق ومن الذي قام بإجراءات التمويل والتحضير لظهوره كشاهد بعد فترة طويلة من وقوع الجريمة وبإخراج هدف إلى اختلاق أدلة تهدف إلى تضليل اللجنة.. ألم يكن من واجب اللجنة أن تظهر بتقريرها من الذي اختلق هذا الشاهد ومن الذي أمن له المال اللازم سواء في لبنان أو في الخارج.. إنه تقصير مقصود الهدف منه واضح ولا يخفى على أحد.‏

سادساً: سرية التحقيق: إن القانون يعاقب على إفشاء أسرار التحقيق سواء بنشر أو إعلان أي وثائق أو أقوال لا يجوز إعلانها قبل اكتمال التحقيق والدفع بنتائجه إلى المحكمة المختصة.. هذا الأمر كان على رئيس اللجنة أن يمارسه وهو أعلم من غيره بأن مخالفة هذه القاعدة يشكل ارتكاباً وخطأ مهنياً جسيماً هذا إن كان الأمر عن غير قصد أما وإن إفشاء أعمال اللجنة عن قصد مباشر فإن الأمر هو من الخطورة بمكان لأن فيه افتراءعلى كرامات الناس الذين قد تثبت براءتهم وفيه اعتداء صارخ على مبادىء قانونية تتعلق بحقوق الإنسان وكرامته.‏

إن قيام رئيس اللجنة بعقد المؤتمرات الصحفية وتسريب المعلومات إلى الصحافة وخاصة اللبنانية التي تدور في فلك الإعلام المعادي لسورية وكذلك للصحافة الإسرائيلية التي كانت تنشر المعلومات الواردة في التقرير قبل صدوره إنما يكون بذلك قد خالف أبسط القواعد والمبادىء القانونية المتفق عليها عالمياً.‏

سابعاً: فيما يتعلق باللغة المستعملة بصياغة القرار: إن لغة التقارير القضائية يجب أن تكون واضحة لا تحتمل التأويل والتحريض, لكن الملاحظ أن تقرير ميليس جاء مصاغاً بلغة اعتمدت المفاهيم والعبارات غير القانونية مثل (ربما - ممكن - يجوز... وغيرها), إضافة إلى أن القرارات والتقارير القضائية لا يجوز أن تحتمل أكثر من معنى ولا يجوز أن تأتي بعبارات ورموز مبهمة ومضللة كما لا يجوز أن يسمى الشاهد بمجهول أو (x) وإن مجرد حصول ما ذكر يحجب عن الموقوفين أو المشتبه بهم حق الدفاع الذي أقرته لهم الأنظمة والقوانين وفي مقدمتها ما أقرته مبادىء شرعة حقوق الإنسان.‏

ثامناً: إن مجرد نشر التقرير قبل اكتمال التحقيقات هو من الضعف بمكان وإن دلالات ذلك ليست قانونية بل هي دلالات سياسية وأن مجرد أن تلوح بعض الدول وبمقدمتها الولايات المتحدة بفرض العقوبات على سورية قبل بيان الحقيقة إنما ينفي عن اللجنة أن تكون لجنة قضائية مهنية بل إن نشر التقرير الضبابي دليل على النوايا السيئة التي تريد استعمال التقرير كأداة سياسية لاتخاذ إجراءات سابقة لأوانها كثيراً..‏

تاسعاً: إن الادعاء على الشاهد الصديق بصفته كمشترك في الجرم بعد أن كان شاهداً ما هو إلا لتغطية الفضيحة التي وقع بها ميليس والتي استعملت من قبل فريق سياسي لتوقيف البعض ولتضليل التحقيق.‏

عاشراً: إن إثارة موضوع التعاون السوري مع لجنة التحقيق الدولية والادعاء بأن سورية لم تتعاون بالشكل المطلوب رغم كل ما قدمته في هذا المجال حتى أن رئيس لجنة التحقيق الدولية لم يشر إلى أن سورية لم تتعاون كما يجب إلا في التقرير المقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة.. مع أنه وبعد استجوابه لأشخاص سوريين أكد أنه ليس هناك متهم سوري بقضية الحريري ولم يذكر بكل مقابلاته أن سورية لم تتعاون أو في هذا دليل على التناقض الخطير الذي سقط فيه ميليس الذي ثبت أنه ومن خلال ما خلص إليه لم يكن بعقلية وذهنية القاضي والمهني العادل والمتجرد.. وإن كل ما قامت به اللجنة إنما كان يشكل وسائل ضغط على سورية والتدخل في أمور سيادية وطنية.‏

حادي عشر: إن سورية ومنذ اللحظات الأولى أعربت عن رغبتها وجديتها بالكشف عن الحقيقة التي أراد الآخرون أن تكون وفق أهوائهم ورغباتهم السياسية المكشوفة وأثناء كتابة هذا الموضوع صدر المرسوم التشريعي رقم 96 عن السيد رئيس الجمهورية العربية السورية والقاضي بتشكيل لجنة قضائية خاصة تتولى مباشرة إجراءات التحقيق باغتيال الرئيس الحريري, ما يؤكد رغبة وإرادة سورية جادة في التوصل إلى الحقيقة في جريمة الاغتيال.‏

إن سورية لم تكن إلا متجاوبة مع المجتمع الدولي وساعية لأن تكون الشرعية الدولية سائدة وأن يخضع لها الجميع لا أن تكون انتقائية بحيث أن كل ما يطال إسرائيل تكون الشرعية الدولية بعيدة عنه, وبمقدار إرادة سورية احترام القانون الدولي والشرعية الدولية فإن إرادتها بالتمسك بثوابتها القومية والوطنية وبسيادتها هي بنفس المقدار.. إن ما ذكر يشكل الثوابت والمبادئ والقيم التي تعمل لأجلها سورية وإن الوصول إلى حقيقة من اغتال الحريري هي مصلحة سورية بمقدار ما هي مصلحة لبنانية.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية