يتحدث عن مشاريعه العربية بلغة سينمائية عالمية , أميرة قرطبة وصلاح الدين الأيوبي .
كانت المرة الأولى التي التقيت به عندما جاء في مطلع الثمانينات ليعرض فيلم شيخ المجاهدين وهو الاسم الذي اختاره لسيرة المناضل عمر المختار , ولم أكن بحاجة للتعريف عن نفسي , فقد سبقني إليه مقال لي عن فيلم الرسالة أرسلته عن طريق شقيقه وائل أحد أشهر لاعبي فريق الشرطة لكرة القدم في الستينيات .
جاء العقاد إلى بلده كبيرا بعد أن أنجز فيلمي الرسالة وعمر المختار , وكان الاستقبال حارا في وطنه , وكان أكثر حرارة في مسقط رأسه حلب عندما خرج الآلاف عند حضوره العرض الأول لفيلم عمر المختار , وبعد هذين الفيلمين لم يغب العقاد عن الوطن , فكان يحضر في المناسبات الثقافية والاجتماعية , وحل ضيفا على مهرجان دمشق السينمائي عدة مرات , ومن المؤسف أن يرحل قبيل افتتاح المهرجان الذي دعاه لتكريمه في دورته الجديدة المقررة بعد أيام .
وكان العقاد يأتي إلى الوطن باستمرار ويقطع آلاف الكيلومترات من أميركا إلى الوطن تلبية لحضور مناسبة اجتماعية ومنها عزاء أو فرح في دمشق أو حلب او أي مدينة عربية , وكانت الصحف تنشر أخبار زياراته , وهذا ما يفسر وفاة العقاد بعد إصابته في جريمة تفجير فندق في العاصمة الأردنية , في المكان الذي شهد العرض الأول لفيلم الرسالة عربيا .
ففي ذلك الفندق كان على موعد مع ابنته ريما المقيمة في طرابلس الشام مع زوجها زياد المنلا قبل أن يغادر إلى العقبة تلبية لدعوة حفل زفاف .
وربما لا يعرف الكثيرون الوجه الاجتماعي للعقاد لو لم يسقط شهيدا على أيدي المجرمين القتلة وهو في طريقه لأداء واجب اجتماعي .
أما الوجه السينمائي للعقاد فقد بات معروفا , فهو لا يبخل بتلبية دعوة أية وسيلة إعلامية للحديث عن أفلامه وأحلامه مع أنه لم يوقع سوى فيلمين روائيين , فإن حديثه يكتسب أهمية خاصة , وفي كل مرة يجد القارئ أو المشاهد مادة جديرة بالقراءة والإطلاع .
ومع ذلك من حقه علينا أن نعيد لمحات من سيرته الذاتية وأعماله ومشاريعه السينمائية , ولا سيما أن بعض الصحف كانت تنشر أخبارا كثيرة عن مشاريعه مستغلة اسمه الكبير , وبعضها كان شائعات لايعرف زيفها إلا القريبون منه .
حتى آخر أيامه كان يحمل ويحلم لتنفيذ فيلم عن صلاح الدين الأيوبي كما كان يحمل مشروعا عن الحضارة الأندلسية بعنوان أميرة قرطبة , وهو المشروع الذي بدأه عقب عرض فيلم عمر المختار مباشرة , وكانت صحيفة الثورة من أوائل الصحف العربية التي نشرت عن المشروع في حوار أجريناه مع المخرج في مطلع الثمانينات , وكانت السيناريوهات منجزة تماما , وليست مجرد تصريحات , وكانت تحتاج إلى تمويل .
كانت الوعود كثيرة ولكن الظروف أحيانا وتردد الممولين وعدم نظر القادرين ماديا إلى أهمية المشروع بجدية لم تتح للعقاد إخراج مشاريعه إلى حيز التنفيذ .
أما آخر مشاريعه التي تحدث عنها العقاد فهو مشروع موثق تاريخية يتحدث عن إرسال ملك انكلترا في عام 1223 رسالة إلى الخليفة الأندلسي يعرض فيها الدخول إلى الإسلام , ولكن الخليفة رفض طلب ملك انكلترا الوصاية على تلك البلاد , وأن يسلم ملك يسيطر على حق شعبه ويسلم هذه الوصاية إلى قوة أخرى , وقد استقى مشروعه من مقال نشر في صحيفة صنداي تايمز البريطانية .
ويعلق العقاد على المشروع بقوله : لنقارن بحال العرب الآن في أمريكا وأوربا فقد وضعت في هذا الفيلم الكثير من الإسقاطات التاريخية الجميلة وأتمنى أن يرى النور بعد أن أجد ممولا فكل شيء يتوقف على إيجاد ممول.
وكان مشروع فيلم صلاح الدين الأيوبي قريبا من التنفيذ مرتين في المرة الأولى حالت الظروف دون حرب الخليج دون تحقيقه وفي المرة الثانية قتل الإرهابيين المشروع بقتل مخرجه ,إذ زار العقاد خلال الفترة الأخيرة الخليج للاتفاق على تمويله واتفق مع شين كونري على أداء شخصية صلاح الدين وأبدى كونري استعداده لأداء الدور وهو الذي قال للعقاد في طلب ضمني للعمل لماذا أعطيت انطوني كوين فرصتين ولم تعطني فرصة .
كان العقاد مستاء من التردد في تمويل مشاريعه وتمنى أن تخصص جزء من النفقات العسكرية الإعلام والصورة الفنية ونستطيع من خلالها إحداث تغيير في الفكر الغربي وتقديم صورة ناصعة عن الحضارة العربية الإسلامية ومع أن التكلفة المقترحة للفيلم تبلغ نحو ثمانين مليون دولار فقد كان العقاد يرى أن مشروع مربح ممول
ومع مرور السنوات العديدة فأعمال العقاد تستحق المشاهدة ولا تفقد قيمتها بمرور السنين لأنها مصنوعة لكل الأجيال ولكل الأوقات فحتى الآن لا نزال نشاهد فيلم الرسالة بعد ثلاثين عاما على إنجازه ورغم العقبات التي تعرض لها في بدايته ونهايته ولاسيما من المتطرفين الذين هددوا بتفجير الصالات السينمائية في حال عرض فيلمه فلم تجرؤ سوى دول محدودة على عرضه, مع أن العقاد اخذ موافقة الأزهر على السيناريو , وفيما بعد عرض في جميع القنوات الفضائية , كما نشير إلى أن قيادة الجيش الأميركي قامت بشراء مائة ألف نسخة من الفيلم ووزعتها على جنودها لتعريفهم بالإسلام .
ويبقى أن نوضح عدد الأعمال السينمائية التي أخرجها وأرى أن لبسا وقع في لذهن الكثيرين عنها , فهم لا يذكرون سوى فيلمي الرسالة وعمر المختار وحقيقة هي ثلاثة أفلام وإشراف على دبلجة فيلم إضافة إلى فيلم وثائقي , فهناك فيلمان وليس نسختان بعنوان الرسالة , كل منهما مستقل عن الآخر , وقد صور فيلما بممثلين عرب في مقدمتهم عبد الله غيث ومنى واصف والثاني مثله ممثلون عالميون منهم انطوني كوين وأيرين باباس, في حين نسخة واحدة من فيلم عمر المختار , وقام ببطولته أنطوني كوين وأوليفر ريد , وقام بدبلجته بأصوات عربية , وهناك نسخة منه أعدت كمسلسل تلفزيوني .
وأخرج العقاد فيلما وثائقيا عن جمال عبد الناصر كتب مادته محمد حسنين هيكل .
وأنتج العقاد سلسلة أفلام تشويق في هوليود بعنوان هالوين بدأها في عام 1978 , وبلغ عددها ثمانية أفلام وكان الفيلم الأول من تمويله بموازنة صغيرة جدا لا تتجاوز ثلاثمائة ألف دولار , وفيه أعطى فرصة للمخرج جون كاربنتر والممثلة جيمي لي كيرتس التي شاركت في جميع أفلام هالوين , وشارك في الأفلام الخيرة نجل العقاد , وحقق الفيلم نجاحا تجاريا شجعه على تكرار التجربة وكان الجزء الثامن من إنتاج شركة يونيفر سال العالمية.
وعندما سألت العقاد ذات مرة : لماذا لا تقوم بإخراج سلسلة أفلام هالوين بنفسك أجاب بجدية واهتمام حسب ما أتذكر : أفلام هالوين لأكل العيش ولن أضع توقيعي إلا على فيلم يذكره التاريخ السينمائي .
نعم لم يرغب مصطفى العقاد صنع أي فيلم , ولو أراد ذلك لكانت حصيلته عشرات الأفلام وكان من أصحاب الثروات التي يشار إليها , ولكنه كان يفصل تماما بين العيش بمستوى لائق وبين أن ينتهز فرصة الشهرة والعلاقات لصنع أفلام عادية .
ونشير هنا إلى أن العقاد غادر حلب إلى أميركا وهو في الثامنة عشرة , وطوال السنين التي عاشها هناك لم يغير جلده , و قالوا له هناك لماذا لا تغير اسمك لتجد فرصا أفضل , فرفض
وقال : كيف أغير اسمي وقد ورثته عن والدي .
ولم يكن الطريق أمام العقاد سهلا فقد غادر حلب وهولا يملك سوى مئتي دولار أعطاها له والده لأنه لم يستطع أن يوفر له أكثر .
وعمل هناك في البيوت والمزارع ليستطيع تأمين مصروفه ودراسته , وعندما امتلك حياة معيشية أفضل , جعل بيته عربيا بشكل كامل من الطعام والموسيقا والأثاث , وفتح بيته أمام السينمائيين العرب عندما كانوا يقصدونه طلبا للمعونة أو النصيحة , وقد حدثني عن أسماء شهيرة جاءت إليه , لكنه كان أميركا في تعامله مع الناس , وأعطى بذلك نموذجا لكيفية تعامل العربي مع المجتمعات الغربية دون التخلي عن عروبته .
ولا يسعني إلا أن أترحم على مصطفى العقاد الذي كان سفيرا حقيقا للعرب , والذي بقى متحمسا للقضايا العربية منذ أعماله الأولى وحتى اللحظات الأخيرة من حياته , وما يحز في النفس أنه ذهب ضحية أناس يدعون الإسلام والتدين وهو منهم براء , وهم الذي طاردوه في لندن بعد فيلم الرسالة مباشرة بالسكاكين جهلا وعدوانا .
مصابنا جلل بك يا أبا طارق , ونشهد أنك قد أديت الرسالة, وهذا ما يعزينا في رحيلك عن الدنيا , والدخول في سجل الخالدين .