لكن في ظل استمرار الحرب ضد ماتسميه الإرهاب , استمر صقور الإدارة الأميركية في انتهاج السياسة الأحادية القطب الانتقامية.
فقبل بداية الحرب ضد أفغانستان, سعت الولايات المتحدة الأميركية لتشكيل تحالف دولي ضد ماتسميه الإرهاب , ضم كلا من أوروبا وروسيا والصين وجيران أفغانستان, وهذا التحول في السياسة الأميركية لم يكن نابعاً من تحرر الأنا الأميركية المتعالية والمتعجرفة من أنانيتها, بل لأن واشنطن رأت أن لاخيار أمامها إلا أن تأخذ بعين الاعتبار وجود المحيط الدولي وعدم القفز وتجاوز المجتمع الدولي.
غير أن النصر في الحرب الأولى الذي تم إحرازه بسهولة نسبياً في أفغانستان, جعل إدارة الرئيس بوش تعود إلى فكرة القطبية الأحادية, الحصرية, ذلك أن هذه الإدارة ميالة بطبيعتها إلى تجاهل بقية العالم, وفي الواقع يتراءى لنا اليوم أنه باسم الحرب ضد الإرهاب التي أعلنها الرئيس بوش في خطاب حول الاتحاد أمام الكونغرس تعمدت الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات صارمة لقمع الحريات على المستوى الداخلي الأميركي وعلى المستوى العالمي.
والعودة إلى انتهاج سياسة كارثية تتسم باصطناع العنف في مقاومة العناصر التي تعتبرها الحكومة الأميركية هدامة.
الولايات المتحدة تطلب من بلدان العالم أن تقرر فيما إذا كانت معنا أو ضدنا وكأن الخط الفاصل واضح, وقد وافق الكونغرس على منح الرئيس بوش التمويل والدعم اللازمين لتوسيع بناء قوة عسكرية واستخباراتية واسعة وتقلصت مساحة الحرية العامة للأميركيين. و قد جعل الرئيس بوش من خطابه حول الاتحاد خطاباً تعبوياً بامتياز, طالباً من الأميركيين الوقوف وراءه في حربه المعلنة على الإرهاب ومكرساً معظم خطابه للحديث عن الحرب رابطاً مستقبل أميركا بتطوراتها, وبذلك حدد الرئيس بوش مصير الأميركيين في الداخل بما يتحقق له من إنجازات في حربه على الإرهاب, وهي معركة لن تنتهي في غضون سنة أوسنتين, بل وضع لها حداً يتجاوز ولايتيه في البيت الأبيض.
واشنطن لاتعاين إلا تفوقها العسكري الكاسح, الذي تستخدمه لتأكيد هيمنتها على العالم, والولايات المتحدة مستمرة في التبختر والتعجرف, وإظهار سيطرتها على النظام العالمي, وهي لاتريد حقاً ممارسة )عدالة غير محدودة كما تدعي, لأن هذا يرتب عليها الإصغاء إلى مختلف الأصوات الصادرة من أنحاء العالم ومن المنظمات غير الحكومية التي تصرخ عالياً للحصول على شفقتها, عوضاً عن إيديولوجيتها وأعمالها الحربية التي تقذفها واشنطن كيفما أرادت.
هذه السياسة ليست جديدة, فالرئيس بوش أعلنها قبل انتخابه رئيساً للولايات المتحدة, ومارسها بعد انتخابه, وتتصرف إدارته الحربية المتكونة من مسؤولين لهم باع طويل في مكافحة الإرهاب خلال الأعوام السابقة في كل مكان تبعاً لرهانات هي تحددها لا المجتمع الدولي, أو حلف شمال الأطلسي, فمن بين القضايا الساخنة في العالم, هناك القضية الفلسطينية التي كانت الاختبار الحقيقي لإدارة الرئيس جورج بوش لجهة تبنيها منطق وسياسة رئيس الحكومة الإرهابي شارون ومن بعده أولمرت, إلى معاهدة (أي بي أم) مع روسيا حيث تنصلت الولايات المتحدة منها لمصلحة مشروع الدرع الصاروخي, إلى انتشار الأسلحة النووية.
وبذلك, فإن الحرب ضد الإرهاب من وجهة نظر إدارة بوش تقتضي عدم الإصغاء لحلفاء الولايات المتحدة الأميركية, واستمرارها في نظام القطبية الأحادية, لأن هذا الموقف الهيمني يسمح لواشنطن بوجه خاص أن تحتكر وحدها المبادرة العسكرية في شن الحرب ضد أي بلد يعارض سياستها الامبريالية من دون تقديم كشف حساب لأحد, علماً أن هناك دولاً تمارس الإجرام والإرهاب, وهذا مايوافق تماماً تصرفات أصدقاء الولايات المتحدة الصهاينة الذين يتبعون سياسة ماهو أبشع من الجريمة والإرهاب, وأميركا تغض النظر عن هذه السياسة الإرهابية, بل إنها تتبنى منطقها أكثر من أي وقت مضى, وفي عالم مندمج, حيث إن القرارات الرئيسية للولايات المتحدة بشأن خوض الحرب ضد الإرهاب, تؤثر على التوازنات الكبيرة التي تنظم العلاقات الدولية, في السراء والضراء, كان من المنطقي والتاريخي أن تشكل الأزمة الأميركية في العراق منعطفاً في التفكير الأميركي بحيث يمتد التأثير ليكون بمنزلة نهاية التفرد الأميركي بالقرار العالمي ونهاية القطبية الأحادية, فضلاً عن وجوب بقاء تلك الحرب الكارثة في العراق ماثلة في الذاكرة الأميركية, لجهة إعادة واشنطن النظر في علاقاتها مع الدول الأخرى من منطق الاحترام المتبادل, والقيام بمشاورات حقيقية على مستوى عالمي.
الحرب ضد الإرهاب تستدعي تحديد وتعريف الإرهاب من قبل مؤسسات دولية مثل هيئة الأمم المتحدة, وتتطلب أيضاً سيادة المبادىء العامة والشاملة, وليست الغربية فقط كالديمقراطية والحرية والمساواة ومقاومة الشعوب للاحتلال واحترام حقوق الإنسان بغض النظر عن جنسيته وديانته التي ينتمي إليها, غير أن الخطر الأكبرالذي وضعت فيه الولايات المتحدة يكمن في تجاهل هذه القيم ووضعها على الرف, وذلك بالتذرع بالظروف الدولية غير الملائمة وما شابه, غير أن هذه الفرصة التاريخية خسرتها الولايات المتحدة, بل إن إدارة الرئيس بوش دفنتها عندما اختارت تأكيد أنها القوة العظمى الوحيدة, التي صارت تعتبر نفسها سيدة العالم بفرضها مادعته النظام العالمي الجديد أحادي القطبية, وإطلاق اسم الإرهابي على كل من يعادي ظلمها وجورها.
هذه الفرصة التاريخية المهدورة, سوف تكون لها نتائج كارثية, لأن الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة الأميركية ضد الإرهاب لن تحقق النتائج المقصودة, ولأن الحرب ضد الإرهاب أيضاً, التي تخاض حصرياً على الصعيد العسكري, والاستخبارات, والتجسس, والحرب السرية, وبأهداف منتقاة من الولايات المتحدة هي بالضرورة متفككة, فالولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب, تستخدم الوسائل غير الديمقراطية, وتغلق أعينها تماماً على ممارسات الأنظمة الديكتاتورية في العالم, ذلك أن فكرة مساندة أنظمة ما وتقديم المساعدة لها بحجة أنها تنادي بالقضاء على الإرهاب فكرة غير ناضجة وغير مقبولة, فهل يمكن قبول تسلط بعض الأنظمة العالمية المتعسفة لأنها أدانت هجمات الحادي عشر من أيلول? وهل بالإمكان غض الطرف عما يحدث في الشرق الأوسط من إرهاب صهيوني بشع? الإرهاب كل لا يتجزأ, وبالتالي تقتضي محاربته استخدام الوسائل الشرعية والديمقراطية العادلة سواء على المستوى الوطني أو العالمي, وهذه الحرب تحتاج إلى مرتكزات قانونية أو أمنية بدلاً من اللجوء إلى القوة واستخدام الأعمال العسكرية كيفما اتفق , وخاصة ضد الدول المناوئة للسياسة الأميركية كالعراق وإيران وكوريا الشمالية.
إن معظم الدول في العالم الثالث عامة وفي الوطن العربي خاصة, ترفض لجوء الولايات المتحدة إلى استخدام القوة العسكرية ضد العراق, وتدين العدوان الأميركي الأخير على سورية, وهي تريد أن تتعاون مع واشنطن من أجل الوصول إلى مجتمعات أكثر تماسكاً وتطابقاً وانسجاماً مع المبادىء العامة الشاملة, التي تخدم مصلحة الجميع, إلا أن مناداة واشنطن بالديمقراطية وإقامة تحالفات مع الطغاة أو الحكومات الاستبدادية وخوض الحرب ضد الإرهاب أمر فيه الكثير من التناقض ويثير السخرية, لأن مسألة وصف بوش بلدان معينة تناهض السياسة الأميركية بأنها محور الشر , وأنها تمثل تهديداً واضحاً وبائناً للعالم, وأن هذا التهديد خطير جداً , قد جعل الولايات المتحدة الأميركية تنتهج سياسة فاشية واضحة للعيان, إذ أصبحت هذه السياسة تذكرنا بما كان عليه الحال زمن الحرب الباردة, حيث أصبح الهاجس الأمني من أولويات التعاون الدولي, وشغله الشاغل إلا أن البحث عن الأمن ودعم الديكتاتوريات المفروضة بالعنف والتعسف مسألتان متناقضتان وتهيئان الأجواء لمزيد من العنف والتعسف لتصبح أكثرملاءمة لكافة أنواع التجارة غير المشروعة من جهة كتجارة الأسلحة والمخدرات وغير ذلك, وبالتالي تعمل على تغذية التطرف والإرهاب من جهة ثانية.
إن إدارة الرئيس بوش تتجاهل كثيراً العالم, بل إنها تعتقد أنها صاحبة فضيلة, وترفض رفضاً قاطعاً معالجة الأسباب التي قادت وتقود إلى مراكمة جميع الكراهيات ضد أميركا التي ليست بمستوى واحد, وبالتالي فهي ليست متشابهة, ذلك أن العداء للأمركة مختلف من دولة لأخرى.
إن المنطق الذي يسير بموجبه بوش هو بناء نظام القطبية الأحادية الذي لايترك مجالاً للآخرين, حتى حلفائه لإبداء وجهة نظر قد تكون مختلفة مع توجهاته في الشكل, ومتفقة معها في المضمون, إنه يريد بناء عالم يتقرر مصيره في مكتبه البيضاوي.
السؤال الذي باتت تطرحه النخبة الأميركية الفكرية والسياسية مراراً وتكراراً, وبصراحة تامة كلما سنحت الفرصة, ويطرحه الغرب برمته, لماذا هذا العداء المتجذر للولايات المتحدة الأميركية في العالمين العربي والإسلامي?
كاتب تونسي