تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


إضاءات على هامش السعادة.. والعصفور الأزرق

آراء
الأثنين 3/11/2008
د. محمد الراشد

حينما أجدني محاصراً بلا أسباب موجبة إلى درجة يعجز فيها الكتاب عن إخراجي من شرنقة الأحزان أجهّز نفسي للرحيل إلى الشاطئ المتوسطي الضاحك,

وهذا ما تم مؤخراً فكان توجهي عبر مصياف إحياء لأبجدية الوفاء ولأن دماء فريق منهم تكاد تتزاوج مع المقولة الخالدة لشاعر الدفق العبقري )أبو الطيب المتنبي(:‏

وخير جليس في الأنام كتاب‏

أمضيت معهم يومين متتاليين نسجتهما خيوط المتعة والراحة والتعب والإرهاق معا, وحينما قررت التوجه نحو طرطوس أعلمني هاتفياً من كنت أقصده فيها أن اللقاء الأول سيكون على وجبة غداء في مطعم هيلتون الجبل الكائن في منطقة وادي العيون والمعلق على سفح فردوسي بين وديان مرصعة بالاخضرار وجبل موشح بالأشجار, ولهذا انطلقت مبكراً لأحظى بساعة أو بعض الساعة أنشد فيها الوحدة والاتحاد معاً ,وحدة مع الذات واتحاد مع مفردات السحاب والجبل والنبات, وما إن جلست متأملاً تلكم اللوحات التي رسمتها إرادة بارئ الأكوان حتى اخترق أذني تغريد بلبل يشدو لنفسه أو للكون الكبير وكأنه يعزف موسيقا السماوات والأرض, وما هي إلا دقائق عشرة حتى استقرت حمامة زرقاء وراحت تتناغم معه على فرع غصنها المياد على لغة فيلسوف الحكمة أبي العلاء المعري وكأنهما يرتلان سمفونية الوجود وفجأة توقفا عن الغناء ورفرف كل منهما بجناحيه وكأنهما على موعد للرحيل إلى شاطئ الفردوس ,وفي اللحظة التي كنت أرقب فيها طيرانهما الهادئ الموزون وصل من كنت ضيفاً عليه ليغمرني ببسماته وكلماته الملونة بأهازيج المروج الدائخة في الضياء تصحبه سيدة حضارية وكل منهما مسكون بالحكمة وفضل الخطاب وأيقنت مباشرة بأنها عقيلة الصديق العزيز عدنان وقاف ليسارع هو إلى القول: إنها زوجتي السيدة ضفاف أحمد وتداخلاً مع كل مفردات الترحيب وتساوقاً مع شفافية اللقاء الثلاثي رحت أتأمل العروسين اللذين بلغ كل منهما أشده وبلغ أربعين سنة لتحتلني حكاية العصفور الأزرق لأنها تكاد تشكل تقاطعاً بين من يستضيفاني في هذه الربوع الخالدة وبين البلبل والحمامة اللذين عزفا لي سمفونيتهما ثم رحلا بلا سابق إنذار ليتابعا معاً طريقهما في الحياة, من أجل هذاسأقص على السادة القراء حكاية العصفور الأزرق في نهاية المطاف.‏

لقد اتخذت الحوارات خلال يومنا ذاك في الخامس والعشرين من شهر آب للعام الحالي 2008 توجهات عاصفة حيناً ودافئة حيناً آخر لكنما كانت النشوة سيدة الموقف باستمرار ولاسيما حينما أشارت السيدة ضفاف إلى الزاوية التي سطرتها بعنوان :(متى يتقن الغرب أبجدية التاريخ) والتي ولدت مساراً استراتيجياً عن الحضور السوري عربياً وعالمياً ومنطق التاريخ الذي يؤكد أبداً أن أي توجه سياسي أو فكري أو ايديولوجي أواقتصادي لا يمكن له الامتداد ذات اليمين أو ذات الشمال ما لم يأخذ إشارة خضراء من سورية وعبّرت عن ارتياحي إزاء نجاح الرئيس الأميركي المقبل أوباما وبنفس الوقت أشرت إلى تخوفي من محاولة اغتياله قبل وصوله إلى البيت الأبيض ومع أن الصديق عدنان استبعد مثل هذا الاحتمال فقد كنت متمسكا به بشكل أو بآخر وهذا ما تم فعلا كما يعرف العالم أجمع.‏

وانسياقاً مع ذلك اليوم الذي ظللتنا فيه ورود النشوة وعبقها اسمحوا لي بالحديث عن بعض هوامش السعادة.‏

حينما كنت طفلاً استمع فيها إلى أحاديث الكبار عن البحر الذي كان بعيداً عن مسقط رأسي كنت أتصوره نهراً كبيراً يسير في اتجاه واحد وكان يخيل إلي بأنه التجسيد المتعالي للجمال الأخاذ والسعادة الحلم وكبرت مع الأيام وشاهدت البحر وقرأت قصيدة (الطلاسم) لشاعرنا العظيم إيليا أبو ماضي وتساؤلاته:‏

هل أنا يا بحر منكا هل صحيح ماورووه عني وعنكا‏

وآنذاك تهاوت كل تصوارتي عن البحر السعيد‏

لكنما بقي ذلك الكائن الذي أحب ولهذا أتساءل باستمرار: من السعداء ?‏

فقد يخيل لفريق من الناس أن الحاكمين والأثرياء والسادة هم السعداء بينما يظن آخرون أن الفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين هم تاج السعادة وفردوسها ,في حين يعتقد أناس بأن العشاق هم وحدهم نسيج السعادة وشذاها الفتان ولاسيما حينما نشاهدهم يسيرون هونا على طريق زراعي ونصغي لأحاديثهم عن تساقي كؤوس الحب والهوى.‏

ولكن ما إن يتم التماس مع تلكم الشرائح الاجتماعية واختراق (جوانيته) حتى تسقط كل التصورات كأوراق الخريف التي تتهاوى الرياح السافيات ولهذا فإن القول الفصل يتحكم به منطق الحياة مؤكداً أن لكل سعادته ولكل شقاءه.‏

لكنما تبقى لحظات السعادة دقائق أو ساعات مسروقة من الزمن بينما تكاد تهيمن أشباح المآسي على كل أو معظم حركتي الزمان والمكان, وبما أن كل شيء نسبي في الوجود, فالسعادة هي الأخرى نسبية شاء الإنسان أم أبى.‏

لكنما على الرغم من ذلك كله أجدني على قناعة أبدية بأن حب الله والإنسان والوطن هو المسار الوحيد القادر على إجهاض ما يمكن إجهاضه من المتاعب والآهات وترميم ورفع مستوى لحظات الفرح والسرور وإقامة صروح للغبطة تستعصي على جحافل الأحزان.‏

والآن هل نتوقف معاً عند حكاية العصفور الأزرق?‏

يروى أن عصفوراً أزرق اللون يرفل حيوية وجمالا كان يقف في الأمسيات والأصباح والأصائل والأبكار على حافة الغدير يشدو لنفسه أغاني الحب ويرتل آيات السعادة وفي ضحى أحد الأيام شاهد إلى جانبه عصفورة بيضاء تصغي إليه فمنحها بسمة دافئة وتابع غناءه, وراحت الأيام تترى واللقاءات تتكرر حتى كان ذلك اليوم الذي سقط فيه العصفور مغشياً عليه فسارعت العصفورة إلى رش الماء على رأسه بمنقارها الصغير متابعة رعايته حتى استعاد صحوه .. وهكذا استطاب كل منهما الآخر ولم يتفرقا إلا بعد أن أخذ كل منهما عهداً من الآخر على اللقاء والصحبة طوال النهار. ثم جاء ذلك اليوم الذي أفصح لها بحبه لكنه أصيب بخيبة أمل حينما اشترطت عليه استبدال ريشه الأزرق بريش أبيض, وحرصاً منه على التمسك بها أعلن استعداده لتلبية رغبتها مراهناً على الزمن ومؤكداً لها حبه الكبير وإصراره على أن تكون رفيقة الدرب نهاراً وأنيسة الليل بعد حلول الظلام, وراح يحاول جاهداً استبدال إزرقاقه بالأبيض وبحكم الاستحالة كما بحكم انتهاء مدة الرهان المتفق عليها أعلن عجزه التام عن تحقيق رغبتها ثم قال مؤكداً لكنني اليوم أشد رغبة وأكثر إلحاحاً على إقامة عش زوجي مع عصفورتي البيضاء.‏

فاجتاحت العصفورة رعشة حالمة ثم رفرفرت بجناحيها قائلة: ذلك هو اللون الذي كنت أريده لك فهيا بنا إلى مراتع الأمل السعيدة.‏

تعليقات الزوار

انس وقاف |  anas-anas1981@hotmail.com | 07/08/2009 00:25

شكرا لك على هذا الوصف الجميل ايها الكاتب العظيم

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية