ولأن القنيطرة سقطت بيد العدو الغاشم فلم يجدوا سبيلاً للحفاظ على أرواحهم والنجاة من قصف المدافع وأزيز الرصاص ورعب الحرب سوى ترك بلادهم.
حاولوا التشبث بأرضهم لكن هدير الطائرات وحجم القنابل كان أقوى منهم فتركوا أرضهم وطردوا منها تاركين كروم العنب وبساتين التفاح وسهول القمح والشعير ومزارعهم ومواشيهم ومحالهم المليئة بالمواد الغذائية وتركوا ذكرياتهم الشخصية تحت تهديد قوة السلاح المتوحش ورغم فظاعة الموقف وفداحته ورغم كل المعاناة التي عاناها هؤلاء فإنه يبقى من الأمور الداعية للعجب أنه بعد مرور أكثر من واحد وأربعين عاماً على القصة ألا تلقى قضية تهجير أهل الجولان الاهتمام الإعلامي والمحلي الكافي, ورغم كل ما تحمله من حكايات فظيعة ومأساوية ورغم مرور كل هذه السنوات لا تزال أحلام النازحين تحمل آمالاً بعودتهم لديارهم ولأشجار الزيتون والجلوس تحت ظلها واستعادة ينابيعهم وأنهارهم وسهولهم والتمتع بنسيمها العليل والعودة لبحيرتهم طبريا التي رفض القائد الخالد في كل جلسات المفاوضات التخلي عنها تحقيقاً لأحلام أولئك الذين عاشوا قربها واصطادوا من أسماكها وسبحوا في مياهها الرائعة وربما سمعنا عن هذه الأحلام أو قرأنا عنها في الانترنيت أو وسائل الإعلام وتأثرنا وحزنا فكيف اذا سمعنا القصص من أصحابها ولامسنا حرقة قلوبهم من بين الكلمات المتعثرة والحروف المتلعثمة ومن بين حشرجة الحناجر ولربما سالت الدموع رقراقة على الخدود تعبيراً عن عمق التأثر وقوة التعلق بالأرض والوطن, وفي السطور القادمة سوف نستعرض بعضاً من قصص النازحين ولن يكون بمقدورنا أن نحيط بكل مآسيهم ولا التعبير عن مشاعرهم لأن ذلك يحتاج لمجلدات ولأن هناك في كل منزل وإلى جانب كل شجرة ذكريات لا يستطيع المرء إلا أن يقف أمامها منحنياً بخشوع وقلبه منفطر من هول القصة عسى تسعفنا الكلمات وتصدقنا العبارات.
قرية المسعدية:
حدثنا السيد جابر العرسان من قرية المسعدية المطلة على بحيرة طبريا والتابعة لمنطقة البطيحة التي تبعد عن القنيطرة حوالي 36 كم بصوت أجش وحرقة تملئ كلامه قائلاً: كنت اصطاد السمك من البحيرة فهي لا تبعد سوى عدة أمتار وقد تعرضت للإصابة مرتين بالرصاص من قبل الجنود الإسرائيليين الذين يعتبرون أنفسهم ملاكاً للبحيرة ولثروتها السمكية لذلك كانت تتم عملية الصيد أشبه بالسرقة ويتذكر أبو وسيم وهذا لقبه ويبلغ من العمر 55 عاماً أن منطقة البطيحة جميلة جداً فأرضها سهلية وتقع في منطقة حارة وتتبع لها عدة قرى مثل المسعدية, غزيل تامر, الحسينية, وبطون شيخ علي, ويذكر أن مناخها معتدل شتاءً ودافئ صيفاً فلا حاجة للمدفأة في فصل الشتاء وتصلح أرضها لزراعة الموز بالأخص (أبو نقطة) كما تشتهر بزراعة الخضراوات وكانوا يسقون مزروعاتهم من أحد روافد نهر الاردن الذي لم يعد يتذكر اسمه تماماً ويصلهم هذا الرافد عن طريق قرية الدوكا التي عمرها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر أيام الوحدة بين سورية ومصر وبنى فيها فيللاً اسمنتية ووزعها على الاهالي وبنى فيللاً أخرى في القطاع الأوسط للجولان وهو يتذكر أيام النزوح وعمره آنذاك 14 عاماً حيث ذكر لنا تفاصيل ما حدث مبيناً أن الناس كانوا يختبئون أثناء القصف في الأراضي الزراعية إلى جانب الصخور وبعضهم إلى جانب جدران منزله وعادة يخرجون بملابسهم العادية أثناء حدوث موجة إطلاق القذائف وفي اليوم الخامس لعدوان تموز 1967 أخبرهم عناصر الجيش أن (إسرائيل) وصلت لمدينة القنيطرة وسألوهم لماذا لم يهربوا وفي اليوم السادس أعلن عن سقوط القنيطرة, ما حدا بالناس للهروب سيراً على الأقدام حفاة لايحملون سوى ثيابهم التي يرتدونها دون زاد أو طعام تاركين كل شيء وراءهم حاملين أطفالهم تارة وتاركينهم يمشون تارة أخرى ولأنهم هربوا متفرقين لم يكن هناك مجال للم الشمل وأضاف: إنهم كانوا يقتاتون أثناء نزوحهم على الخبز اليابس المتواجد في بعض المنازل المهجورة أو اللبن أو الخضراوات الناضجة في البساتين وينامون في العراء حيث يفترشون الأرض ويلتحفون السماء, وبين أن معظم أهالي قريته هربوا ومن بقي قتلته (إسرائيل) أو أجبرته على النزوح رغماً عنه وأخبرنا أنهم وصلوا إلى مدينة نوى حيث كانت نقطة تجمع للنازحين ونقلوا بعدها بحافلات لدمشق وتحديداً إلى معرض دمشق القديم ومنها إلى مخيم الوافدين وتقاضوا مساعدات من جهات حكومية وإنسانية لكنها لم تستمر.