إنه الغيث العارم الذي اشتاقت إليه ينابيع الأرض، وعيون الفلاحين المحدقة في أفق بعيد مبتهل أن تمنّ السماء خيراً حافلاً بنسغ حياة يورق سهول اليباب، وحتى الحجر.
في ذلك الصباح استيقظنا على همهمة وحلبة ملأت المدى، كانت الريح شرقية غربية شمالية جنوبية من شتى الاتجاهات جاءت لتحتفل برأس السنة، وتقيم عرساً لم تشهد له الطبيعة مثيلاً منذ زمن طويل.
«مهلاً... مهلاً أيها القادم من حالق».
قلنا للمطر، وأمعنا التروي، فقد بدا بعد ساعات من الهطول سيولاً لافتة للمشاعر الجياشة المتأهبة، كما هي في كل عام، ضمن هذا التوقيت المحدد، تعب الفضاء من الكد، والشوارع أعلنت احتجاجها السافر، لأن السابلة لم يستطيعوا العبور ذهاباً وإياباً، بسبب بحيرات الماء المتعدية على حرمات الرصيف، المتوضعة هنا وهناك.
الليلة نهاية العام، الجميع متوجس، مترقب أوجاعه تحاصره، تنغص عليه ما يسمى احتفالاً، كيف يكون هذا، والأنين قادم من كل مكان؟! كيف تعلن حناجرنا الغناء، والغصة تملأ الصدور لا تبارحها؟! لكن البعض كان لهم رأي آخر في المسألة... قالوا: علينا أن نستقبل السنة الجديدة بابتسامة، وأن نزرع الساعات المتبقية من السنة الماضية أملاً وتفاؤلاً، علها الأيام تورق بعد حين حالات إيجابية، تغير الأوضاع الراهنة، انطلاقاً من مفهوم الطاقة الإيجابية، وانطلاقاً من مقولة:« تفاءلوا بالخير تجدوه».
في تلك الليلة، ؟وقدت مصابيح زرق وخضر وبرتقالية والعيون كما ضحكات الأطفال اعترفت بانبثاق حلم وارف وفي حنايا القلوب اختبأت مواعيد أفراح أتعبها البكاء، فارتأت أن ترسم تفاصيل أخرى بوسع الجرح الذي اتكأت على زنده تفاصيل نادت بهجتها القادمة من حالق، وتوسلت أن تستجيب السماء لقراءات الطوالع المبشرة بعام أفضل من سابقه، فتتحقق النبوءات الخيرة لهذا البلد الساطع، صاحب الحجة والغيض والصحو والوعي والزخر والقول الناصع المتردد في كل حي وشارع وقرية ومدينة:
« نحن مع تجاوز المحنة، مع تجاوز الوساوس والغبار.... فلتنته هذي الأباطيل إلى أقفاص الدخان».
زخم ابتسامات يوزعها المطر وكلام نضير يرفرف في مدارات المحبة، وجناح خفيض يورث بساطاً سندسياً لأقدام العابرين القادمين على الطريق... لكن هل نكتفي بالأقوال بعيداً عن الأفعال؟ ويحملني السؤال صوب جهات متعددة النوافذ... يطير بي إلى مسافات بعيدة، والزمن مشدود إلى واقع يفرض ذاته، بأننا شعب تربى على الانتماء الحر على فحوى احترام الذات، ومن غير احترام الذات لايصح الحال، ومن غير احترام العمل لا يدوم الصلاح، ومن غير احترام الوقت لا تستقيم الأمور، علينا أن نسخر الصباحات والمساءات وامتداد النهارات للعطاء، علينا أن نكون البناة الذين يضحون، والعمال الذين يسهرون، علينا أن نبدأ المسير من حيث يجب الابتداء.... لا أن نقول: غداً، وبعد غد، علينا أن نحافظ على مواقعناوألقابنا ومراكزنا بالقدوة النظيفة، والالتزام الحي اللائق بخصال العمل وأخلاقياته، أما أن نقدم فقط باقات الكلام المنمق الجميل، ونزود الأمكنة بدفق من الألوان يمحوها بعض الماء برمشة عين، ونعتمد النوايا الحسنة أسلوباً لنا بعيداً عن الأفعال فتلك أمور تبقي الزمن معلقاً على جدار الانتظار ناسين أو متناسين أن الواقع لحوح، وأن العمل الجادالمثمر بحاجة ماسة إلى تقريب المسؤول الصالح وإبعاد المسؤول الفاسد، وإصلاح الخلل الحاصل بكل ما أوتينا من غيرية على وطن بحاجة إلينا اليوم أكثر من أي وقت مضى.