وقوتها الصاعدة في عالم بات لا يعترف بثبات القوى بل أصبحت فيه التحولات والتغيرات سمة تميزه ومن يثبت قوته في الميدان لا بدّ أن يعترف له البعض بذلك ، وفي جهة مقابلة لابدّ أن يجابه من قوى أخرى تخاف القادم الجديد المنافس الذي قد يغير ميزان القوى العالمي ويحرفه باتجاه يعاكس مصالحها، ومن هنا كان الخوف الأميركي من تنامي قوة الصين العسكرية والاستراتيجية، وبالتالي استيقاظ التنين الصيني بوصفه القوة الأكبر في منطقة المحيط الهادي.
فالصين التي تفتخر بأنها أصبحت (ثاني أكبر اقتصاد عالمي)، انكبت على مدى العقد الأخير في عملية بناء قدراتها العسكرية وتطوير (جيش التحرير الشعبي)، وهي تركز على (منطقة غرب المحيط الهادي)، التي تعتبر جزءاً من المصالح الحيوية للإدارات الأميركية المتعاقبة على مدى ستين العاماً الماضية.
إن الاستراتيجية الصينية تنهل في مجملها من كتابات المنظر العسكري الصيني (سان تو) الذي يعتبر أن (فن الحرب هو التمكن من إخضاع العدو دون قتال)، لذلك وطبقاً لهذا المفهوم، فإن الهدف الصيني من وراء تطوير القدرات العسكرية ليس شن حرب مع أحد، بل تغيير وتعديل موازين القوى لصالح الصين، إلى درجة لن تتمكن الولايات المتحدة بعدها من التفرد والسيطرة على منطقة هي في الأصل من المجال الحيوي للصين وفي هذه الحالة لن تكون الحرب ضرورية لضمان المصالح الصينية.
لقد أثار صعود الصين وتطويرها لقدراتها العسكرية في السنوات الماضية جدلاً محتدماً في أوساط الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين، بين من يؤيد الانخراط مع الصين من خلال التركيز على تحسين العلاقات السياسية والاقتصادية ، وبين من يرفضون هذا التوجه ويطرحون مقاربة مختلفة جداً تقوم على (موازنة القوة الصينية المتصاعدة)، عبر تطوير القدرات العسكرية الأميركية لأنها الضمان الوحيد لاستمرار الأمن والاستقرار في منطقة المحيط الهادي حسب ادعاء هؤلاء..
مسؤولون استراليون قالوا إن بكين يجب ألا تخشى السياسة الدفاعية الأميركية الجديدة التي فسرت على أنها استراتيجية أمنية (متطورة) في آسيا لإحداث توازن مع قوة الصين المتنامية و الصاعدة في العالم ، وهذا أمر طبيعي من دولة يربطها تحالف وثيق مع أميركا وتسعى للترويج لسياساتها واستراتيجياتها ،الاستراتيجية الدفاعية الجديدة تنطوي على شراكات عسكرية في شتى أنحاء آسيا ودعم وإمداد للوجود العسكري الأميركي ، وفي ذلك إشارة واضحة على الرغبة الأميركية في البقاء بالمنطقة والسيطرة عليها وان كانت ستقلص الحجم الإجمالي للقوات بما يتفق مع سياسة خفض الإنفاق الدفاعي التي كشفت عنها واشنطن في أواخر العام الماضي.الولايات المتحدة بدأت بالفعل برنامجاً دفاعياً يكلف 65 مليار دولار استرالي في عملية لإعادة التوازن التي تقوم بها القوات الأميركية في آسيا ، وهو أمر ترى فيه بكين تهديداً لها ولعلاقاتها التجارية مع استراليا وحجمها الإجمالي 113 مليار دولار استرالي .الرئيس الأميركي باراك أوباما كشف عن تفاصيل الاستراتيجية الجديدة وقال إن (مد الحرب ينحسر) ،بينما قال وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا أن الجيش الأميركي سيكون (أصغر وأرشق) حسب تعبير بانيتا ، وصرح مسؤولون في الإدارة الأميركية أنهم يتوقعون خفض قوات الجيش ومشاة البحرية الأميركية بما يتراوح بين 10 و15 في المئة على مدى العشر سنوات القادمة، وفي هذه التصريحات مراوغة ومحاولة لإيهام الرأي العام أن خطط واشنطن العسكرية قد تقلصت ,وان أهدافها العسكرية قد تحققت وهي الآن ليست بحاجة لقوات كبيرة في المناطق التي تنوي البقاء فيها .
وستحتفظ الولايات المتحدة بموجب الاستراتيجية الجديدة بقواعد كبيرة في اليابان وكوريا الجنوبية وهو أمر لن يريح بكين ، وخلال زيارة لاستراليا في تشرين الثاني الماضي أعلن أوباما عن نشر قوات من مشاة البحرية الأميركية وسفن البحرية والطائرات في شمال استراليا اعتبارا من عام 2012 لتتحول بذلك مدينة داروين إلى قاعدة عسكرية بأمر الواقع .ادعاء واشنطن أنها ستعمل مع الصين لضمان الأمن والرخاء الاقتصادي في المنطقة لكنها ستستمر في التطرق إلى قضايا أمنية منها بحر الصين الجنوبي الذي تمر منه سنويا تجارة حجمها خمسة تريليونات دولار، لايدع مجالاً للشك أن نيات واشنطن هي السيطرة على المناطق الحيوية بدعم من حلفائها وهي تحاول إيهام بكين أن هدفها التعاون معها وهي سياسة أميركية باتت مكشوفة ولن تمر على دولة كالصين تعرف مدى تعلق واشنطن بمصالحها وعدم وفائها بأي التزام تقطعه بمجرد سيطرتها على الأوضاع في المناطق التي تلهث وراءها ،ولاسيما النزاعات حول ملكية المناطق الغنية بالنفط والجزر في بحر الصين الجنوبي تشكل أكبر التهديدات الأمنية في آسيا، وتتنازع السيادة عليه بشكل كلي أو جزئي كل من الصين وتايوان والفلبين وماليزيا وفيتنام وبروناي وهذا أمر قد تلعب عليه واشنطن لإضعاف بكين .لكن الثابت أن العداء الأميركي للصين الشعبية سوف يؤدي لنتائج غاية في الخطورة على الميزانية الأميركية من جهة والسلم العالمي من جهة ثانيةً وهذا ما يجب أن تعيه واشنطن بشكل جيد ،وللتذكير فقط، فإن أوباما قد زاد الإنفاق العسكري في كل عام من الأعوام الثلاثة التي قضاها في الحكم حتى الآن، كما أنه أصدر أوامر بتنفيذ عمليات بالطائرات التي تطير من دون طيار في أفغانستان وباكستان ، أكثر من تلك التي أصدرها سلفه جورج بوش... وها هو اوباما يسعى إلى توسيع وتعزيز القواعد العسكرية الأميركية في المحيط الهادي بأسلحة استراتيجية وتدميرية جديدة لمواجهة ما يسميه (الخطر الصيني).