كما تعيد هيكلة القوات المسلحة الأميركية ـ الذراع الطويلة لأطماع الولايات المتحدة حول العالم ـ وكان لافتا في الإستراتيجية التي بدت أكثر انكفاء أنها ستركز على منطقة آسيا والمحيط الهادئ بحيث تكون الصين محور اهتمامها ما يعني بالضرورة الاستمرار في محاولات كبح جماح العملاق الصيني عسكريا، ومواجهته في عقر مصالحه الإقليمية وهو ما يعكس قلقا أميركيا متزايدا من آثار التقدم العسكري والاقتصادي الصيني.
ولكن رغم هذا الخفض الذي سيصل إلى 450 مليار دولار على مدى عشر سنوات قادمة فقد أكد أوباما على أن الميزانية ستظل تتفوق على مجموع نفقات الدول العشر الكبرى في العالم، وستسمح بالاستثمار في برامج الاستخبارات والتجسس، وكذلك مكافحة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل.
ووعد أوباما بما أسماه الحفاظ على التقدم في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشمال أفريقيا قائلا «نحن ندعم الإصلاح السياسي والاقتصادي وتعميق الشراكة لضمان أمن إقليمي»، كما تعهد بمواصلة تخصيص الأموال لحلف الناتو نظرا لأهميته الحيوية بالنسبة للولايات المتحدة، وبرر أوباما هذه الإستراتيجية بالاستناد إلى ما أسماه نجاحات بلاده ضد تنظيم القاعدة، والتمكن من قتل زعيمه أسامة بن لادن، والانسحاب من العراق، وبدء انتقال المناطق الأفغانية إلى سيطرة الجيش الأفغاني باعتبارها إنجازات لإدارته خلال السنوات الماضية.
المعترضون على هذه الإستراتيجية رأوا أن أوباما كرر فيها أخطاء أسلافه من الرؤساء السابقين، ولم يستفد من دروس التاريخ كما ادعى، لأن شواهد التاريخ القريب تؤكد ذلك ومنها أن الرئيس الأسبق هاري ترومان وعبر محاولته لتفادي المزيد من التكاليف الباهظة التي نجمت عن الحرب العالمية الثانية، لجأ إلى تقليص عدد أفراد الجيش الأميركي من ثمانية ملايين جندي إلى أقل من نصف مليون، فكان أن منيت بلاده بخسائر ثقيلة خلال الحرب الكورية دفعت ثمناً باهظاً لتورطها فيها، وهي حرب قيل في وقتها أن ترومان لم يكن ينوي خوضها مطلقا.
كما أن الرئيس دوايت أيزنهاور الذي جاء بعده بسنوات قليلة اعتمد خلال رئاسته إستراتيجية مشابهة «النظرة الجديدة» فقام بخفض عديد قوات الجيش والمارينز «مشاة البحرية الأميركية» وعوض عن ذلك ببناء وتعزيز قوة ردع نووية، ثم اندلعت حرب فيتنام التي لم يكن أيزنهاور ومن بعده جون كيندي وليندون جونسون يرغبون في التورط فيها، غير أن الجيش الأميركي المحترف تفكك بحلول عام 1970 ليحل محله كيان من الهواة وكانت النتيجة هزيمة مذلة سقط فيها نحو 58 ألف قتيل.
ليتوصلوا إلى أن الإستراتيجية التي أعلنها أوباما ليست فكرة عبقرية تتواءم وتطورات الأحداث الجارية على مستوى العالم، وتجد حلولا مبتكرة لما تعانيه القوة العسكرية الأميركية التي تمتلك فائضاً من القوة لا يمكنها من الانتصار في حروبها ما يدفعهم للتأكيد بأن الخطة صيغت تحت ضغط الحاجة لجعل البنية الدفاعية تتلاءم مع حقائق الموازنة المفلسة التي فرضتها ثلاثة أعوام من سياسات العجز المالي غير المسبوق لأوباما ولإدارته، فضلا عن عشرة أعوام من الحرب المفلسة في كل من أفغانستان والعراق.
أما المؤيدون لهذه الإستراتيجية فيعتبرون أنها تعكس تبايناً حاداً مع الاستراتيجيات التي تلت أحداث أيلول عام 2001، وأن البنتاغون بدأ يصب اهتمامه أكثر فأكثر على قوة الصين المتعاظمة وكذلك على الدول النووية «المارقة» بدلا من التركيز على الحرب ضد الإرهاب، ومضوا للتأكيد بأن الإستراتيجية الجديدة تشير بوضوح إلى الأعداء الذين ستواجههم أميركا في المرحلة القادمة وهم المتطرفين الذين لا دولة لهم وقراصنة الانترنت الذين ينوون شن حرب الكترونية ضد مصالح الولايات المتحدة.
في موازاة ذلك اعتبر محللون أن خفض الميزانية الأميركية وتقليص عدد الجنود الأميركيين يأتي في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة العديد من التحديات والتطورات الطارئة ومنها احتمال انهيار حليفتها باكستان، واحتمال سيطرة تنظيم القاعدة على دولة مثل اليمن، وكذلك احتمال تنفيذ إيران لتهديدها بإغلاق مضيق هرمز وإعاقة شحنات النفط العابرة له وهي نحو 40 بالمئة من نفط العالم في غمرة دفاعها عن برنامجها النووي وردها على العقوبات الغربية، والاحتمالات الناجمة عن وصول رئيس جديد لكوريا الديمقراطية لا تعلم واشنطن عن إستراتيجيته سوى النذر القليل، وهذا يجعل أميركا على المقلب الأوروبي يرى محللون أنها تحمل رسالتين في وقت واحد أولاهما أن واشنطن لن تخوض حروبا جديدة على شاكلة حربي العراق وأفغانستان في المدى المنظور، والثانية أن واشنطن بدأت تدير ظهرها لحلفائها في أوروبا من خلال التنصل من حماية الأمن الأوروبي وترك هذه المسؤولية على قوات أوروبا لوحدها، وأنها ربما لن تكون قادرة على توفير دعم للأوروبيين في حروب جديدة على شاكلة حرب ليبيا.
وهناك رسالة مبطنة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مفادها أن الولايات المتحدة ستستخدم قوتها الناعمة لإعادة رسم خريطة المنطقة من خلال المساهمة في إقامة أنظمة تابعة لها، وهو ما قصده أوباما بإشارته إلى دعم الإصلاح السياسي والاقتصادي في هذه المنطقة، والدعم بالمفهوم الأميركي الأوبامي هنا هو التدخل وإملاء الشروط وتقديم المال والسلاح للوصول إلى الهدف المنشود.
ومهما يكن من أمر فإن هذه الإستراتيجية كشفت ضعفا وعجزا أميركيا، وأرسلت برسالة مهمة إلى شعوب منطقتنا فحواها أنه لن يكون في وسع الولايات المتحدة الاستمرار بمغامراتها العسكرية التي أرهقت العالم وأشاعت فيه الفوضى والخراب.