والفردي والاجتماعي على حد سواء. فالأخلاق هي المحدد الأساس لكل ضرورة، أو فعل، أو شرعية، وما لا يحمل أخلاقيته المنظورة لا يمكن أن تقبل حركته المظهورة، وكذلك مَن لا يحمل الأخلاق الفردية، والجمعية، والوطنية من المستحيل أن تأتي حركته بالنفع الذاتي، أو بالنفع للآخر الاجتماعي والوطني.
وعليه تمّ فرز الأفكار، والقيم، والمرئيات عموماً، ونقدها، وقبولها ورفضها على الشرط الأخلاقي المتوافر فيها. أو غير المتوافر، ولكم قيل: إنما الأمم الأخلاق، وبهذا المبدأ الأخلاقي سادت حضارات بشرية إنسانية، وحين بدأت القيم الأخلاقية الجاذبة، والمؤهِّلة تخرج من الأطر المكونة لهذه الحضارات رأينا كيف توقف الشوط الحضاري، وهدأت الحركة, واستتبَّ السكون وأخذت مظاهر التفجّر الداخلي تظهر في الأشكال الحضارية المعنية وصولاً إلى سقوطها، وخروج من كانوا القيِّمين عليها من المشهد الحياتي، ثم ينتهي بهم التاريخ إلى مدافنه وفي ملفاته وتُطلق التسمية حضارات سادت ثم بادت.
وفي كل حقب التاريخ كان القانون التاريخي يتكئ على الأخلاق، وكان التمييزُ بين قوةِ فكرةٍ، وضعفِها هو المقدارَ الذي تحمله لحياة الجماعة البشرية من خُلُق، وخير، وأنسنة. وكم شهدت هذه الحقب السحيقة في القدم من أفكار لم يُدْخِلْها التاريخ في نسيجه، ولم يُدْخِلْ أصحابها في حركته؛ أي لا التاريخ قد أدخلها فيه لتصبح أفكاراً تاريخية أي مبدعة، وفاعلة في المجرى التاريخي للناس، ولا هو – أي التاريخ - قد قبل أن يدخل فيها مؤيداً، ومعتبراً وحاضناً لها فبَقيَتْ هذه الأفكار والدّاعون إليها خارج التاريخ الحي، وحُكم عليها بالموت الأخلاقي والتاريخي.
وفي الواقع العربي رأينا كيف انهارت أمام حركة الشعب العربي أفكار كثيرة لم تحمل أخلاقياتها إن كانت في زمن التحرر من العثمانيين في الربع الأول من القرن الماضي، أوفي رفض خطة سايكس بيكو سياسة وجغرافية، ورفض مبدأ الانتداب الذي كان حجّة من أجل احتلال العرب وتقسيمهم، ونسف دولتهم القومية التوحيدية وتهيئة الظروف العربية، والدولية لإقامة كيان للصهيونية على أرض فلسطين العربية.
وحين بدأ الإعلان عن الجامعة العربية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية1939-1945 كيف رفض التيار القومي أن تكون الجامعة بديلاً عن الوحدة العربية، واستعادت الدولة القومية للعرب التي افتقدت منذ هجوم التتار عليها في العام 1258م، وقَبِلَها إذا كانت سوف تمثل الطريق إليها. وحين بدأت حرب النكبة عام 1948 وتعاونت الدول الإمبريالية الغربية الأوروبية، وأميركا على كسر إرادة العرب وإقامة كيان عنصري استيطاني ينسف وحدتهم ويقتل الحلم بوحدتهم ودولتهم القومية بمساعدة عدد كبير من العرب ( جماعة أبي رغال التاريخية)، رأينا كذلك كيف خلت هذه القضية من أي شرط أخلاقي منذ أن أطلقت مقولة: “ أرض بلا شعب تعطى لشعب بلا أرض”. ونلاحظ هنا التدمير الخلقي الأعظم عند الغرب الصهيوني بأن ينكر وجود الشعب الموجود منذ ألفي عام، وهاهو المرشح للرئاسة الأميركية الذي زار الكيان الصهيوني مؤخراً يعيد على الأسماع أن الشعب الفلسطيني أكذوبة، والعرب القادة من الأمراء الأجراء وغيرهم لم يتظاهروا ضده لأنهم كانوا مشغولين بزرع التفجيرات بين المدنيين الآمنين في سورية، وتدمير سورية أكثر أهمية من تدمير العدو الذي يحتل بيت المقدس ويهوده مع فلسطين.
ولو تتبعنا ما حدث على أرضنا العربية بعد نكبة 1948 من مشاريع غربية لم تحمل أخلاقياتها، ومن حروب لم تحمل أخلاقياتها، ومن قادة عرب لم يحملوا أخلاقيات المسؤول والمسؤولية وكيف سقطوا جميعاً في نهر النفايات التاريخي سنتوصل إلى وحدة الضمير والأخلاق في كل فكرة وهدف، أو مبدأ باعتبار أن التعبير عن الضمير الفردي متعلق بقوة ما فيه من خُلُق كريم، والضمير الاجتماعي والوطني كذلك، والأخلاق الكامنة في الفكرة والبرنامج، والشعار، والحركة تنطلق من الضمير الفردي والجمعي والوطني لتدعيم القوة الأخلاقية، ومن الأخلاق لتدعيم الضمير الذي يمثّل إرادة الله في خَلْقِهِ.
وأعجب ما في الحال الذي نشهده اليوم هو أن الأفكار تطرح جهراً وعلى الملأ دون أي توافرٍ لأخلاقيِّتها أو لأي نسبة من ضمير فيها؛ فماذا تعني حرية تدمير الآمنين في شوارعهم وأمام حوانيت تسوّقهم؟ وماذا يعني قتل النفس التي حرّم الله بغير وجه حق؟! وماذا تعني حرية إكراه الآخر على أن يكون منضوياً في تيار الذين يكرهونه أو يُقتل؟! وماذا تعني حرية التصريح باحتلال الوطن، وتمزيقه، وتشريد سكانه دون أن يخاف صاحب هذه الحرية الله ويتّقيه بأبناء جلدته؟! وماذا تعني الحرية القادمة إلينا من جيوش الأطلسي وإسرائيل، وتحمل لنا كل ما ستحمله؟! هل في مثل هذه المرئيات ضمير وطني. أو أخلاق سياسية، أو تبشير بوطنٍ حرٍّ، سيّدٍ، آمنٍ، موحّدٍ، قادرٍ على إنتاج الحياة السعيدة لشعبه ومواطنيه؟ نعم هذا هو السؤال.