تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الكارثة الجيوسياسية والفشل في قيادة العالم

دراسات
الخميس 19/4/2007
بقلم الدكتور فايز عز الدين

في منتصف الثمانينات من القرن الماضي, وقف العالم على بداية تاريخ جديد للبشرية, كان واضحاً فيه أن قطبية آيلة إلى زوال وقطبية تستعد لقيادة العالم منفردة, ولا ترغب لأحد من حلفائها أن يشاركها في نتائج نصرها باعتبارها تحلم بأن تتحول إلى قوة امبراطورية تنصب نفسها على قيادة العالم بدون أي أساس ديمقراطي لهذا التنصيب مع أنها زعمت بالديمقراطية, وحقوق الإنسان,

وتكامل المصالح العالمية, وتقديم الإنساني العالمي, وحق تقرير المصير, وحل كافة النزاعات الدولية العالقة بالطرق السلمية, واستبعاد شبح الحروب المدمرة, وإدخال البشرية في نظام دولي جديد ليس فيه تقاطب عدائي, أو تقهقر حياتي وصولاً إلى رفاه البشرية, وازدهار اقتصادها المشترك العالمي والخلاص من حافة الهاوية التي أوصلها إلى العالم وجود الاتحاد السوفييتي, والحرب الباردة بين القطبين الأعظم.‏

وإذا كانت أميركا بزعامة ريغان قد دفعت النظام الدولي إلى شفير الهاوية بدءاً من أزمة الصواريخ في برلين, فإن نهاية الحرب الباردة في زمن الرئيس بوش الأب قد شهدت حرب الخليج الثانية, والمبادرة الدولية للسلام (المسرحية الفاشلة لأميركا), وخروج القطب الاشتراكي رسمياً من خريطة العالم, وبداية عالم القطب الوحيد المنفرد بقيادة العالم, وإدارة الحكومة العالمية.‏

ومنذ أن حدث وتصدرت أميركا قيادة النظام العالمي شرع مفكروها, ومنظروها يقدمون تحليلاتهم للحالة الدولية الجديدة ويبشرون بالوصول إلى نهاية التاريخ (فوكوياما), وإلى بروز صدام المدنيات (هنتنغتون), ويوضحون الحقبة الأميركية التي ستبقى في قيادة العالم إلى نهاية القرن الحادي والعشرين الراهن.‏

وكم كان هناك جدل في أرجاء العالم المختلفة من أوروبا قبل توحيد نفسها, إلى روسيا وريثة النظام السوفييتي, إلى الهند, والصين, واليابان باعتبارهم يمثلون لاعبين دوليين جيواستراتيجيين لهم أثرهم في نمو الحياة الدولية بالاتجاهات التي قد لا تنسجم مع الجيوبوليتكا الأميركية كقطب وحيد منفرد بقيادة العالم.واستناداً لمقولة المفكر الروسي يفغيني بريماكوف بأن أميركا تغلب القوة في سياستها الدولية على الدبلوماسية, دون أن تراعي حدود هذه القوة, ومضاعفاتها على صعيد العالم الحاضر, وصعيد ما هو قادم في العصر الجديد, فإننا ننظر اليوم إلى الحياة الدولية في ظل القطب الوحيد المهيمن لنراها لا تمثل أبسط حلم للبشرية فيها.‏

ثم لنرى تراجعاً خطيراً في العدل الدولي, وفي النظام الدولي حيث قامت السياسات الأميركية للمحافظين الجدد بإغراق العالم بالأزمات الاقتصادية عبر العولمة القسرية, والاجتماعية عبر تراجع الاقتصاد العالمي, والسياسية عبر الانحياز لإسرائيل غير المحدود, وإغضاب العالم الإسلامي برمته في هذا الخصوص, وعبر الحروب الاستباقية التي نسفت الحوار الدولي, وعززت مظاهر الغضب, والحقد, والكراهية لأميركا القائدة بالإكراه للنظام العالمي.‏

ومنذ الحرب في يوغسلافيا والأدوار الأميركية السيئة فيها, إلى حوادث الحادي عشر من أيلول 2001 وما تبعها من تشكيل تحالف دولي شكلي في الحرب العالمية على الإرهاب واحتلال أفغانستان, إلى احتلال العراق انطلاقاً من الخوف الديماغوجي, والحجج المكشوفة بتهديد الأمن الأميركي على حد قول زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأسبق للرئيس جيمي كارتر, لم تستقر أميركا في إدارة العالم, كما لم تحقق للعالم الذي ادعت قيادته أية بيئة للاستقرار, وعلى العكس من ذلك سادت أجواء العالم صراعات جديدة, ونزاعات, وتوترات فاقت بحجمها أضعاف ما شهدته حقبة الحرب الباردة في عصر الثنائية القطبية.‏

وعليه فقد أخذ يبدو - وبسرعة لافتة - أن أميركا بوش الأب, وكلينتون وبوش الابن لم تستطع أن تستفيد من وضعها كقوة عظمى عالمية لا تضاهى وتتمتع بنفوذ دولي غير مسبوق, وقد بدا واضحاً عجز الرؤساء الثلاثة المذكورين آنفاً عن التعامل مع المعطيات العالمية الجديدة, وتطويعها لصالح الولايات المتحدة الأميركية, خاصة في عدم إيلاء هؤلاء المعنيين قضية السلام في الشرق الأوسط حقها اللازم, وتقصيرها في وضع تصور لحل الصراع الطويل بين العرب وإسرائيل.‏

ولقد وردت هذه الآراء في كتاب بريجنسكي الأخير (الفرصة الثانية: الرؤساء الثلاثة وأزمة القوة العظمى الأميركية) حيث اجتهد الكاتب, والاستراتيجي بريجنسكي في تحليل نموذج السياسة الأميركية منذ الحرب على العراق إلى اللحظة الراهنة التي تظهر فيها أميركا غارقة في رمال العراق, وفاشلة في تحقيق أي نجاح ينقذ لها ماء الوجه.ومن المعروف أن بريجنسكي ومعه برينت سكوكروفت مستشار الأمن للرئيس الأميركي الأسبق - كذلك - جورج بوش الأب قد عارضا بشكل علني الحرب على العراق منذ لحظة الإعداد لقرارها في آب من عام ,2002 ومن الطريف في كتاب بريجنسكي (الفرصة الثانية) أنه يقوّم ما انتهت إليه الحرب على العراق, ويذكر بتحذيراته السابقة في هذا الموضوع, ويحلل مجمل الحالة الأميركية المتردية في إطار التغييرات التي شهدها العالم على امتداد العقدين الأخيرين ليخلص إلى إخفاق الرئيس بوش الابن في حل القضايا العالقة, ولاسيما الصراع في الشرق الأوسط - على حد قوله - بسبب الانحياز الأميركي السافر إلى إسرائيل, وما يثيره من مشاعر عدائية في أوساط العالم الإسلامي.ويلتقط بريجنسكي في كتابه الهام موضوعة الزخم الذي أحدثته هجمات الحادي عشر من أيلول ,2001 وخلق حالة التفاف عالمي حول أميركا, واتساع دائرة التعاطف الدولي معها, لكن أميركا فوتت على نفسها الفرصة من خلال سياسة الغطرسة التي اتبعها الرئيس بوش الابن, إلى جانب الأحادية التي تصرف بها, ومن ثم تقسيمه السطحي - على حد قول بريجنسكي - للعالم بين الخير والشر.‏

كل ذلك قد أضاع على أميركا فرصة القيادة الحقيقية للعالم, وألحق ضرراً كارثياً بالمكانة العالمية لأميركا, ولم تعد لدى أميركا اليوم أية فرصة تستطيع معها حشد الجهود العالمية لمساندتها, أو لجعلها تحقق نصراً حاسماً في العراق, ويختم بريجنسكي آراءه في كتابه المعني بتأكيده على أن الحرب على العراق كانت كارثة جيوسياسية لأميركا, أدت إلى صرف الانتباه عن المحاربة الحقيقية للإرهاب, كما أدت إلى ضياع الموارد بدون نتائج, وزيادة على ذلك أججت مشاعر الكراهية ضد أميركا, ووفرت الأرضية الأكثر ملاءمة لصعود الإرهاب, وانتشاره, وزيادة أخطاره.‏

وما أصبح بارزاً في أفق التفكير والتنظير في أميركا, وخارج أميركا هو التنبؤ بتصدع القلعة الأميركية, وهذا يعني أنه لما يمض على قيادتها للعالم عقد ونصف من الزمان حتى نخرت سياستها الخارجية مظاهر الفشل, والتراجع, وفقدان المكانة العالمية كقوة قائدة.ومثلما قدم بريجنسكي آراءه في كتابه الفرصة الثانية, وخلص إلى تراجع المكانة العالمية لأميركا وفشلها في قيادة العالم خاصة بإدارة الرئيس بوش الابن, ورموز اليمين المحافظ الذين اعتمدوا على الخرافة, والغيب السياسي (الميتافيزيقيا السياسية) أكثر مما اعتمدوا على الواقع الموضوعي, والوقائع العلمية الكامنة وراء متحولات العالم الراهن, وخاصة من جهة اتساع دائرة الكراهية لأميركا نتيجة كيلها بمكاييل في أهم القضايا الدولية, وأكثرها حساسية.قدم الكاتب خير الدين عبد الرحمن في كتابه: (تصدعات في القلعة الأميركية) تحليلاً استشرافياً, استراتيجياً يشير إلى توافر الكثير من العوامل التي تؤدي حاضراً, وفي قابل الأيام إلى تصدعات في البنية الأميركية تتناول الجانب القيمي في المجتمع الأميركي, والطبيعة الراهنة للنفاق تجاه الآخرين, إلى تصدع الحديقة الخلفية لأميركا (أميركا اللاتينية) حيث تحولت إلى بؤرة جديدة للحركة الثورية العالمية.‏

ويعتقد الكاتب أن ضموراً أصبح واضحاً في الهيمنة الأنكلوسكسونية في أميركا, وأن تأثيرات التلمود على ممارسات القتل الجماعي تتزايد, وأن عبادة المال, واغتصاب الثروة, وتعميم الفاقة, والخلل في النظام التعليمي, والإعلام, وأزمة الأدوات العسكرية للهيمنة الأميركية, ومن ضمنها اللعبة النووية, والحروب الاستباقية, وفزاعة الإرهاب كل ذلك أصبح يشهد أزمة, ويحول الداخل الأميركي إلى مأزوم كذلك.ويؤكد الكاتب أن كافة المقولات التي حاولت أميركا أن تجعل منها تجارة دولية رابحة خاصة بعد حوادث الحادي عشر من أيلول قد سقطت, ولم تعد الشعوب المناضلة من أجل تحررها الوطني تقبل هذا التفسير للإرهاب الذي وضع على حساب حق الشعوب المحتلة أراضيها في النضال الوطني المشروع بكافة الطرق.وهذا يعني أن عصا الطاعة لأميركا قد شقت بدءاً من أميركا اللاتينية الحديقة الخلفية لأميركا الامبراطورية.‏

ويرى الكاتب أن حالة هلع بارزة للعيان أضحت تدب في أوصال هذه الامبراطورية, ومنظريها بعد سقوط الأقنعة, وانكشاف زيف الشعارات, والعناوين التي تم تحت لوائها ضرب الشعوب, واحتلال البلدان الرافضة للهيمنة والنهب الامبرياليين من أفغانستان إلى العراق.والحال عليه فإن الفكر العالمي الذي بدأ يبحث في تصدعات الدولة الامبراطورية التي لم يمض على ظهورها في الحقل العالمي منفردة بحكم العالم أكثر من عقد ونصف, ألا يجعلنا هذا البحث نربط بين التراجع الخارجي لأميركا, والتراجعات الداخلية التي من الممكن لها أن تفك العقد الاجتماعي, وتدعو إلى نوعية أخرى منه تكون أميركا معه قد مالت نحو التفكك كولايات متحدة?‏

إن التقرير في هكذا مصائر يحتاج إلى الكثير من البحث العلمي لكن في التحليل السياسي يتياسر للمتابع الذي شهد تفكك الاتحاد السوفييتي بزمن قياسي أن يضع في الاحتمال أن الامبراطوريات في مثل عصرنا الراهن يمكن أن تتفكك, والسرعة في هذا الخصوص هي من أهم سمات عصرنا الراهن.‏

fayez-ez@scs-net.org‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية