|
نـــــــدوة البعــــث ورؤى الفكـــــر المتجــــــدد شؤون سياسية وليست قضية القطر الذي فرضت جغرافيته سايكس بيكو، فالأمة العربية واحدة موحدة تاريخياً وجغرافياً وكفاحياً، والفرنسي في سورية حين كانت عصبة العمل القومي وحركة الإحياء تعملان بين صفوف الشعب العربي السوري من أجل نيل الاستقلال السياسي التام، وعدم السماح للفرنسيين بربط سورية بأي معاهدة تنتقص من السيادة الكاملة للوطن والمواطن. وكان البيان التاريخي الأول لحركة البعث في 24 تموز 1943 بمفرداته قد وضع حركة المجتمع العربي في سياق القضايا الحقيقية في التحرر من الاستعمار والتقدم نحو التوحيد القومي للأمة المجزأة عبر إعلانه عن تمثيل الروح العربية والتاريخ الحي والقومية التحررية ورسالة العروبة والجيل العربي الجديد. وبنتيجة انعقاد المؤتمر التأسيسي لحزب البعث من 4-7 نيسان 1947 أصدرالبعث وثيقته الإيديولوجية الأولى (الدستور) التي أوضح فيها مبادئه الأساسية (وحدة الأمة العربية وحريتها.. شخصية الأمة العربية.. رسالة الأمة العربية) وكذلك أوضح مبادئه العامة ومنهاجه. وقد سار نضال البعث دوماً على هدي حركة الجماهير العربية المكافحة ضد الاستعمار فأخذ منطلقاته من إرث حركة الاستقلال والوحدة العربية ضد الاستعمارين العثماني والفرنسي واعتبر نفسه الوريث الشرعي لمبادئ هذه الحركة واتخذ من الثورة العربية عام 1916 رايته من أجل تحرير الأمة العربية وتوحيدها وقيام دولتها العربية الواحدة. وبناء عليه حدد شعاره: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وأهدافه: الوحدة العربية والحرية والاشتراكية. ومنذ انعقاد مؤتمره الأول 1947 وصدور وثائقه وتشكيل عمادته كان توجهه الأول نحو ما يجري على أرض فلسطين العربية بعد أن تحقق لسورية استقلالها في 17/4/1946 فدعا العرب إلى وحدة النضال ضد بوادر الهجرة الصهيونية إلى أرض فلسطين وفتح مكاتبه من أجل التطوع وتشكيل كتائب مسلحة لتحرير فلسطين ومنع إقامة الدولة الصهيونية التي ستهدد بقيامها الوحدة والمستقبل العربي ومن أجل ذلك أنشأ البعث، مكتب فلسطين الدائم واعتبر أن نصرة فلسطين يجب أن تكون امتحاناً لاستقلال سورية. وبهذا المنهج القومي الذي يعلي المصالح العربية العليا على أي مصلحة قطرية كانت سيرورة نضال البعث فحقق الوحدة عام 1958 بين سورية ومصر وحقق ثورتي شباط وآذار 1963 في العراق وسورية واستكمل البعث نظريته السياسية وقدراته على تنظيم الجماهير وحشدها بعد الحركة التصحيحية 16/11/1970 بقيادة القائد الخالد حافظ الأسد فأقام التجربة الوحيدة في النظام التعددي العربي وخاض حرب تشرين التحريرية التي أسقطت عوامل القوة المزعومة للعدو الصهيوني المتغطرس. وفي ظل القائد الخالد حافظ الأسد جدد البعث فكره ليتخلص مما كان استدعى أن يتجدد في نظريته السياسية والتنظيمية وخاصة لجهة القصر الذي عطل على البعث التقدم نحو مشروعه القومي الوحدوي التحرري حين قصر تحقق الوحدة على تحقق الاشتراكية على الصعيد العربي والعكس. وهنا تجمدت حركة البعث في حدود ذاتها وفقدت البوصلة في النضال العربي وكادت ثورة الحزب في سورية أن تنتهي حتى قام القائد الخالد في المؤتمر القومي الثاني عشر 1975 بتحليل هذه المعادلة المغلقة ووضع أهداف البعث على طريق أكثر واقعية وموضوعية ليكون للنضال القومي التحرري طريقه المفتوح وكذلك للنضال الاشتراكي مع المراعاة الكاملة للخصوصية العربية في كل قطر واحترام ما اتفق عليه في ميثاق الجامعة العربية. ومن المعروف أنه في ظل القائد الخالد واصل البعث رؤاه المفتوحة وذهنيته التجديدية وتعامل مع أخطر ظروف الميل التاريخي عربياً وإقليمياً ودولياً لتصبح سورية الدولة الأهم وليتحول القرار العربي لها أملاً. وبعد انتقال القائد الخالد إلى جوار ربه وانطلاق مسيرة الحزب والشعب في ظل القائد بشار الأسد كان المنطلق نحو التحديث والتطوير والاصلاح على قاعدة أن ميراث القائد الخالد كبير وعظيم لكنه يدعونا -كذلك- إلى المزيد من التحديث والتطوير في ذهنية الحزب وعقيدته وأساليب نضاله حتى يواصل البعث السير والاستجابة لمنطق الحياة في التغير والتغيير وحتى يتجادل دوماً مع الجديد العربي والدولي وتكون لديه الاجابات المواكبة. وعلى هذه القاعدة وبتوجيه من قائد مسيرة الحزب والشعب السيد الرئيس بشار الأسد قامت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي -مكتب الإعداد القطري- بعقد الندوة الفكرية الهامة لمناقشة مشروع بعض المنطلقات الفكرية للحزب تحت عنوان: رؤية متجددة، وفكر يتسع للجميع. والمؤشر الهام في هذه الندوة أخذ من كلمة القائد بشار الأسد في خطاب القسم الدستوري الأول عام 2000: «الفكر المتجدد وأعني به الفكر المبدع لا يتوقف عند حد معين ولا يحصر نفسه في قالب واحد جامد». ومن وحي هذه الكلمة تم تحضير البحوث الجديدة في أهداف الحزب في الوحدة و الحرية و الاشتراكية وإمعان النظر عبر مرحلة من الزمن بدأت عام 2004 وها هي تتوج في هذه الندوة الهامة جداً في الحراك العقائدي للبعث. والجدير بالذكر هو أن متخصصي البعث في الفكر والسياسة قد تمرسوا بالأساس في عقيدة الحزب بحثاً وتحليلاً، وتحوروا بالمفردات التي كانت قد اعتمدت في بعض المنطلقات النظرية للبعث التي أقرها المؤتمر القومي السادس 1963 وكيف كانت في ذلك الزمان تستجيب لظروف حركة الجماهير العربية في مواصلة النضال القومي التحرري التوحيدي والاشتراكي ثم تواضعوا على مفردات جديدة أصبحت تستدعيها أولاً طبيعة إنجازات البعث في حقلي الدولة والمجتمع وثانياً مجمل التحولات المعرفية التي اكتسبتها الجماهير العربية بفعل عوامل التقدم التاريخي وانتصار نهج الحرية القائم على مواصلة تبني المقاومة والكفاح ضد الاستعمار بوجهيه القديم والحديث في فلسطين والعراق وثالثاً من طبيعة التحولات العالمية وأزمة الليبرالية الجديدة في نظامها الاقتصادي المتدهور واستعادة الدولة لشأنها الرعائي المطلوب ورابعاً من تطلعات المجتمع العربي نحو الوحدة بكامل قنواتها: السياسية والاقتصادية والثقافية ونحو الحرية بنظامها في الديمقراطية والمؤسساتية والمجتمع المدني والمواطنة والعلمانية وحقوق الإنسان والأوطان ونحو الاشتراكية وفق منهج اقتصاد السوق الاجتماعي والدولة التعددية وتكافؤ الفرص والتوزيع العادل للدخل وحماية الطبقة الوسطى وعدم السماح بتدهور الحالة الاجتماعية للجماهير والحرص على الدولة الراعية ذات المضمون والدور الاجتماعيين حتى تكون سورية دوماً ذات اقتصاد مزدهر في الدولة العادلة. وبالمحصلة لقد حققت هذه الندوة طموحات البعثيين -في ظل قائدهم السيد الرئيس بشار الأسد- وطموحات الجماهير العربية التي تنتظر دوماً تجديد عقيدة البعث باعتبارها عقيدة الأمة في وحدتها وحريتها ومجتمعها العادل والديمقراطي.
|