تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الرسالة الأخيرة: إيقاع الحلم والذاكرة

كتب
الأربعاء 22/10/2008
أحمد علي هلال

أصبح من الناجز القول إن القصة القصيرة, باتت عصّية على الانضباط في قواعد محددة , سلفاً , فهي مسايرة لغوايتها,

الأقرب إلى ( نزوة القص المباركة) فهل تنحو الكثافة إلى الرؤية وهل يذهب الاقتصاد لمشيئة (ثعلب السرد المراوغ) ?!‏

ومع ذلك, فإن الروائي والقاص المعروف فواز حداد, صاحب موزاييك دمشق وتياترو 1949, والضعينة والهوى, وغيرها من الأعمال الروائية الدالة, في مجموعته القصصية الرسالة الأخيرة يعيدنا إلى فضاءات القصة القصيرة, في نصوص مختلفة ومتباينة بالمعنى الفني.‏

ولعل ما استطال منها ليحمل على الأرجح , شبهة الرواية في نصوص مثل: ما بعد الختام والمشكلة الميتة , وهيئة التنفيذ, فهي تضمر إيقاعاً روائياً بمعنى ما.‏

ثمة خيط رفيع يربط ما بين النصوص كوحدات سردية, ويضبط إيقاعها ويمنحها كفاءة متخيل وسعته, إذ الحلم هو واسطة عقد الحكاية ومحرضها, فبمقدار اقترابه من واقع افتراضي, يصوغه في تورية, ليصبح متخيلاً إضافياً, فإن ما يضيفه فواز حداد سيتجلى في سياق هدم الحدود المفترضة بين الخيال والواقع, فثمة تثمير سردي في رؤية الزمن كحلم قديم غامض, وتأويل النهايات , فما هو أبعد من الحلم هو الرؤية, بعيداً عن التفاصيل الواقعية التي تعيش فيها حيواتنا مضطرة أو مختار فإذا كانت سلسلة من الذكريات فما الذي يعادلها قصصياً, لينتج دلالتها ومعناها?!‏

ثمة استثمار ذكي لما يجعل القصّ متماهياً مع قواعد اللعب الحر المؤسس للحكاية بشذراتها وشواردها ودفق سردها, وانفتاح تقانات كتابتها, ما يجعل خواصها السردية على ذلك التكامل والتنوع, ولاسيما فيما تفصح عنه من قول ثقافي شديد الحساسية, عميق التأثير .‏

ففي الرسالة الأخيرة التي حملت عنوان المجموعة, تبدو الرسالة كحدث يقطع حياة الشخصية الرئيسية ( فريد زعبوبة) الاعتيادية, فالرسالة المغفلة من اسم صاحبها, طالبته بفسخ خطوبته لتنفتح التكهنات بهوية مرسلها, يتواتر الحدث بازدياد الرسائل, ليترك وظيفته, ومن ثم تحمل إليه مكتبة تغر إيقاع حياته, فلم يعد يرتاد الأماكن العامة, وسينتبه لحياته الثمينة صاحب الرسالة المجهول بطل إضافي يمنح السرد ثراء, يضعنا في مفاجآت لا حصر لها ليصبح (زعبوبة) مثقفاً ومن طراز خاص, فهو معني بمشكلات العالم الكبرى, والشمال الغني الجشع والجنوب الفقير, وتلوث البيئة, واستنزاف الثروة العقلية, والمتنبئ بالرئيس الأميركي المقبل.‏

فقد رأى عمره يخط من جديد مداداً أسود على بياض وهو يتلفع بالأحرف ويتشكل بالنقاط, ويتجول في خرائب بابل ونينوى, يذهب إلى التاريخ والحضارة وابن عربي وابن رشد وديكارت وهيغل و.. ثم يذهب أخيراً لعزلته, هل ثمة إيحاء بنهايات المثقف, ودراما المصائر, وعطالة الفعل الثقافي?!‏

يحاكي فواز حداد اللاوعي الجمعي, ليقدم قصة باذخة الدلالة وشديدة الإيحاء والحفر في الصمت والراكد.‏

في (الرسالة) كشيفرة سردية خصبة التحليل والتأويل بأبعادها الساخرة, تلك السخرية السوداء.‏

في (الرجل الذي خرج من الورق) مقاربة لهواجس الكاتب, وحوار مع قارئ متخيل حول تقنيات الكتابة , ولاسيما في مصائر الأبطال, يذكر الروائي اللبناني د. سهيل ادريس, أن بطلاً روايته ( أصابعنا التي تحترق) سارا بعكس ما كان يظن, وأن على المؤلف أن يخضع لتصرفات أبطاله, وأن يتركهم يخرجون عن خطه.‏

لكن فواز حداد يضع المؤلف في المواجهة, مواجهة قرائه ومعجبية وناقديه, وهو يمزج بين الواقع والمتخيل في التنبؤ بمصير بطله ( القاتل) الافتراضي, لكأنه يعيدنا إلى نوازع الإبداع وأسراره ليعلل الخلل الناجم عن التماثل في الأسماء والشخصيات, هي إذاً لعبة الإيهام التي تقول: من يقود الآخر الواقع أم النص, أم الفكر, أم الشخصية المصنوعة من وهم وحبر والتي لا تحيا إلا على الورق!‏

(تقدم عبد البصير صامتاً وشاهراً سكينه, في حين سقط القلم من أصابعه المرتجفة) .‏

تنشغل النصوص القصصية لدى فواز حداد, بمفهوم النهايات وبتيمة الموت, أو النسيان واستدعاء الحياة والشغف بالعشق, نصوص ذاكرة بامتياز وهي ما تمثله من إحالة على زمن تخيلي يتوافق التكنيك القصصي الذي يثير وظيفة بصرية للسرد, واستدعاء حسّ الماضي الذي يحيل لرؤية التاريخ في حكمه الخفية التي تدرك بأنوار الحس وأصوات القلب, ودينامية الذاكرة التي تروي, تكاد نصوصاً بعينها تمثل ذلك ومنها: الحلم وتفسيره, ورجل وامرأة في غرفة, وطبيعة صامتة, وليالي الغرام, وتلافيف ذاكرة, دون إغفال استثمار المستويات النحوية التي تنتج دلالاتها اللغوية, في الأبعاد الدرامية.‏

فالذاكرة الاسترجاعية بهذا المعنى, لا تحيل على مجرد ماضٍ, ومجرد إثارة لذكريات ووقائع, بقدر ما تصوغ أسئلة تمس الفن القصصي في وظائفه الفكرية والأخلاقية.‏

ثمة تأويل لنهاية الأحلام, وربما الأحلام ذاتها, وهي تتقاطع مع الخيال, في مضمرات سرد يعيد الاعتبار إلى الحكاية مفتاح كل قول قصصي, فضلاً عن متعة عوالمها الصافية, وحداثتها فيما ترصده من إيقاع ثقافي, يكشف كفاءة ساردها في سعية لتحفيز تأليفي وجمالي, وبحساسية خياله الذي يهجو حياتنا المجوفة, وإذا كانت كذلك فقد نجح ت.س إليوت في وصفها واستنكارها.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية