تميزت معظم نصوص مجموعة (أول وآخر ماكتبه إيتالو كالفينو) بقرب أسلوبها من المقالة وهذه ميزة عموماً لصيقة بأدب الكاتب الإيطالي الراحل إيتالو كالفينو, المولود في كوبا عام 1923 الكاتب المولع بالسينما إلى حد أنه أحياناً كان يقصد السينما مرتين في اليوم ذاته: (كان إحساسي أن ماأشاهده على الشاشة فقط هو الذي يمتلك المميزات المطلوبة من العالم: الامتلاء, الضرورة, الانسجام), ذكر ذلك في نص (مذكرات مرتاد سينما).
عُرف عنه غرامه بالتفاصيل, بالروائح, بالأمكنة, عاش متنقلاً بين باريس وروما وسان ريمو في الريفيرا الإيطالية ويعترف أكثر من مرة بأن روما هي المدينة الإيطالية التي عاش بها أطول وقت من دون أن يسأل نفسه لماذا . كتاب (غراميات بائسة أول وآخر ماكتبه إيتالو كالفينو الصادر حديثاً عن دار نينوى ترجمة محمد عيد ابراهيم تضمن نص: تحت شمس الفهد متحدثاً عن حاسة السمع تحت عنوان ملك يتنصت: (القصر معمار أصوات تتمدد لحظة وتنكمش التالية, تضيق كشبكة سلاسل, تتحرك فيه, فترشدك أصداء, حرير مركزي, رنين, شتائم, أنفاس متلاحقة, خشخشة, تذمرات, قرقرة..).
بذكاء بارع وشعري يربط كالفينو بين السمع والصوت..مستلهماً بلاط ملك يخشى على عرشه يجنّد الجواسيس الذين يخشاهم هو ذاته أكثر من غيره. يشرح لك كيف أن الأذن تستقبل أصوات الأبواق بطريقة تختلف فيها عن الطريقة التي تسمع بها,قصف الطبول..دحرجة الدبابات على الحصى. ينصحك كالفينو قائلاً: (في الحوار عليك معرفة اللغة, سلسلة من الدقات, واحدة بعد أخرى, سكتة ثم أكثر, بعدها دقات متفرقة, هل تترجم هذه الإشارات إلى شيفرة? هل يشكل شخص حروفاً وكلمات? هل يرغب أحد في التواصل معك? هل لديه مايقوله عاجلاً إليك? جرّب أبسط مفتاح أو جرّب طريقة مورس اجتهد لتميّز بين أصوات قصيرة وأصوات طويلة..يبدو للرسالة المرسلة إيقاع أحياناً كجملة موسيقا, ما يبرهن على رغبة تلفت انتباهك للتواصل للحديث معك..) وأخيراً ينصح ملكه المختار: (لاتجعل أصوات القصر تستحوذ عليك, إن لم ترد الوقوع في حبائلها..).
يجول في بقاع الأذن متحدثاً عن الحيطان وعن العجلات بالشوارع دوران الأسطوانة في الجرامفون من زحمة الأصوات في المدينة وأخيراً يصل إلى صوت المرأة: (هناك صوت, أغنية, صوت امرأة يحمله النسيم من وقت لآخر على الطريق إليك من نافذة مفتوحة: أغنية حب نقلها الهواء قد انفجرت في ليالي الصيف, ولحظة يبدو أنك لقطت لحنها تضيع ولاتعود موقناً إن كنت قد سمعتها أو تصورتها ببساطة: كنت تود سماعها, تحلم بصوت امرأة يغني في كابوس أرقك الطويل ذلك ماترقبه..وأنت هادئ منتبه).
وتحت عنوان (اسم - أنف) يقدم كالفينو نصاً غاية بالإثارة..فيه يربط بين الأنف والعطر والمرأة: (لكل امرأة عطر يجمل عطر جلدها, نداء قياسي هو اللون والنكهة والشذى والرقة, فتظل لذة التنقل من جلد إلى آخر بلا نهاية).
اعترف ذات مرة فيما يشبه كتابة سيرته الذاتية: (سأستهل القول إنني من مواليد برج الميزان ولذلك فإن عوامل التوازن والاختلال في شخصيتي يصححان بشكل تبادلي تجاوزات بعضهما البعض..ولدت عندما اعتزم والداي العودة إلى الوطن بعد سنوات قضياها في الكاريبي ومن ثم فإن عدم الاستقرار الجغرافي هذا جعلني وإلى الأبد أحن إلى مكان آخر).
يصف النقاد كالفينو بأنه مؤلف يتغير تغيراً كبيراً مابين كتاب وآخر, يعتمد اللعب بالسرد بفضل مخيلة حريصة على أبواب مشرعة لكل الاحتمالات. من أشهر أعماله: (المسافر في ليلة ماطرة, قلعة المصائر المتقاطعة, كوميديات كونية, مدن غير مرئية).
بدأ كالفينو عام 1972 يسطر كتاباً عن الحواس الخمس ولدى وفاته عام 1985 كان قد أكمل منه ثلاث قصص (ملك ينصت, الاسم - الأنف, تحت شمس الفهد), ولو ظلّ حياً لتطور هذا الكتاب (غراميات بائسة) إلى شيء مختلف.
كان قد قال لزوجته متسائلاً: كيف أنشئ كتاباً كهذا? لهذا ظلّ عمله مفتقداً لحاستين هما البصر واللمس.
وكالفينو يسرد عالم الروائح كما لو أنه رواية: (تصدم أنفي رائحة عدائية كل مرة أظن أنني صدت فيها رائحة الأنثى التي أتصيدها بمضمار الجماعة, رائحة عدائية تختلط برائحتها فأعري نواجذي وأنيابي وأسناني الطواحن, يفعمني الهياج فوراً, فأجمع الصخر وأمزق الأغصان المليئة بالعناقيد, إن لم أجد بأنفي رائحتها فعلى الأقل يرضيني اكتشاف ذي العطر العدائي الذي يفعمني بالهياج).
ويصف أحد النقاد الرواية عند كالفينو: (هي اجتماع التقنية والملهاة, فالمثير للضحك في قصص كالفينو لايصدر عن رغبة في السخرية والتهكم وإنما اللعب أي استخدام السرد على نحو يتيح الهرب من الحدود, ومن أحادية النظرة إلى كل صورة وحكم, وإلى التحرر من سطوة القريب والخاص والسعي, عوضاً عن ذلك, بمحاولة الإلمام برحابة الكل, كذلك أدب كالفينو قصة أو مقالة, منفتح على الأدب الكلاسيكي وعلى مصادر الأدب الشعبي المختلفة, التقليدي والعلمي, وعنده لامجال لطلاق تام مابين الأدب والعلم, أو مابين الخرافة والمعرفة المستقاة من التجربة الحسية...).