|
ر يجيس دوبريه..مفارقات العولمة ..التقنية توحّد والثقافة تمايز شؤون ثقا فية كلف بالشؤون الخارجية لدى الرئيس الفرنسي ميتران, ثم أصبح مديراً لبرنامج المعهد الدولي للفلسفة وترأس المجلس الوطني لعلوم الإعلام والمكتبات عام 2002 . أسس المعهد الأوربي لعلوم الأديان وترأسه حتى عام 2004 وفي عام 2005 أنشأ مجلة )ميديوم( - التواصل من أجل الابتكار- أحد أكثر الفلاسفة الغربيين إثارة للجدل, المفكر والفيلسوف الفرنسي المعروف ريجيس دوبريه الذي أطلق تياراً فكرياً يعرف بالميديولوجيا. صدر له أكثرمن 25 كتابا أثارت معظمها جدلا واسعا حين صدور كل منها, وكان آخرها )ساذج في الأرض المقدسة( الذي كتبه بعد عدة أشهر قضاها مع الفلسطينيين الإسرائيليين واللبنانيين. زار دوبريه سورية ليلقي محاضرة عن مفارقات العولمة في المركز الثقافي الفرنسي: منبع للمفارقات العولمة كلمة تنطوي على الكثير من الأسرار وهي منبع لا ينضب من المفارقات. هي ليست واحدة من حكايات الجن ولا لعنة, بل ظاهرة تقنية اقتصادية تدل على توسع المنظومة الرأسمالية على سطح الكوكب. للعولمة مفارقات ذات آثار سياسية ثقافية غير متوقعة ومتناقضة . إن عولمة السوق تزيل الفوارق والحدود الاقتصادية, لكنها لا تزيل الحدود الإثنية والثقافية! تسارع الزمن العولمة عالم هش ليس من السهل التوقع فيه أو تنظيم التعايش, خاصة مع نشوء مقاومة الدول الإثنية وانتشار السيادات, ولذا يبدو التحدي الأول أمام العولمة هو أن نتعلم التحكم في السرعة لأن العولمة في العمق هي ( زمكان ) جديد, تقليص للمكان وتسارع في الزمان. العولمة طريقة جديدة في عيش الزمن. في الماضي عرف الإنسان التسلسل الجيلي لكن العيش المشترك اليوم يعاش بالآنية. يمكننا تقليص الزمن من خلال السرعة وأجهزتنا التقنية تسمح بذلك, لكنها لا تستطيع الشيء نفسه مع فترة التأهيل والتعلم, فالزمن ما زال طويلاً بالنسبة للثقافات والأفراد , وهكذا يلزمني فترة طويلة لتعلم العربية, فالحضارة لم تبتكر بعد حبة تعلمني العربية بدقائق! وإذاً العولمة مفارقة بين انفجار الحركية وتقلص الاستمرارية وأزمة الهوية والحضارة . احتكاك الحضارات في زمن ما كانت الغابات مستودعاً للأساطير, لكنها اليوم تحولت إلى مجرد أمكنة خضراء ولذا علينا استعادة الزمن البطيء الطويل وزمن النقل والتوصيل لأنه زمن الثقافة والتواصل. يبدو أن المركزية الإثنية تتقدم بالتوازي مع عولمة حركة البضائع والجماهير وفي ذلك مفارقة غير متوقعة! إذ كان من المفترض في المدينة العالمية الكوكبية اندماج البشر وتفاعل الشعوب لكننا نجد أن الترابط التقني أدى إلى انفراط الصلة بين الثقافات وحركات الشعوب ما نتج عنه زيادة الاحتكاك والعنف فالمدينة الكوكبية لم تشكل ضامناً للعالمية . قديماً كانت الحضارات تتلامس و لكنها اليوم تحتكّ! ونقاط اللقاء هي نفسها نقاط الاحتكاك الشديد ويمكن تشبيه الأصوليات بمرض جلدي نتج عن التلامس مع الآخرالذي كان بعيداً من قبل وتفصله عنا مسافات طويلة, فكأن الدفاعات الوقائية تتم على حواف كل مجموعة بشرية جدران في كل مكان لم تتوفر في أي زمن سابق كل أجهزة الاتصال والتواصل القائمة حالياً ومع ذلك بدأت جدران الفصل ترتفع في كل مكان, هناك جدار الفصل بين الفلسطينيين والاسرائيليين وهناك جدران أخرى كثيرة في الولايات المتحدة مع المكسيك, في الهند وكشمير, في إيرلندا وقبرص, وجنوب إسبانيا... لم يحصل في تاريخ البشرية المعولمة أن تفتت إلى هذا الحد وتحولت إلى مجموعات متعادية ومتنافسة سلبياً! وهكذا برزت إرادة الحفاظ على الهوية,كردة فعل دفاعية لنجد أنفسنا اليوم ليس أمام قدر مشترك, بل أمام تفتت وتفجر الجماعات البشرية, وهذا ما لم يتوقعه أنبياء العولمة! الجوكينغ والظاهرة الدينية تنبأ علماء المستقبل في عشرينيات القرن الماضي بأن سكان المدن ممن يركبون السيارات سوف ينسون المشي وبأن أرجلهم سوف تضمر ويتحولون إلى مجرد جذوع! الناس اليوم لا يسيرون بل يركضون ( في صالات رياضية خاصة ) فيما يسمى بالجوكينغ ( الركض ) بنفس المنطق يمكن إدراج إحياء الظاهرة الدينية ! وكأن الأمر ظهورُ منظورٍ قديم في لبوس جديد وكأن القديم البالي ليس ما مضى بل ما يعود! كان من المتوقع اختفاء العبادات مع اختفاء الزراعة بالتزامن مع مدنية الإنسان وقطع الطريق على الآلهة وكل ما هو فوق الطبيعة, لكن ذلك لم يحصل فقلّت الدساتير التي لا تذكر الله! إنها الحداثة التي يغزوها القديم ليس من الخارج بل من الداخل أيضاً! ومن المفارقة أن الطائرات التي ضربت برجي نيويورك لم تأت من الصحراء, بل من بوسطن! وانطباعي أن الأصوليات الإسلامية لم تظهر في الكليات الأدبية والفلسفية, بل في كليات الطب والهندسة ! ما الذي كانت تنوي العولمة فعله: هل كانت ستقدم للناس بطاقة اعتماد بحيث ينسون بطاقة الهوية? ويتحولون إلى مستهلكين وينسون تدريجياً لغتهم ليتكلموا عن المنتجات فقط? لقد كانت معادلة ساذجة: إما بطاقة اعتماد أو بطاقة هوية! لكن البطاقتين مهمتان! إن كل اختلال ناتج عن التقدم التقني والاقتصادي, يخلق محاولة إعادة توازن ثقافي أو ديني, كي يدافع الناس عن أنفسهم. هناك تسطيح للألوان المحلية حتى في الغرب المتقدم ولذا كانت العودة إلى تمجيد الموروث وأمكنة الذاكرة والمتاحف وهذه مفارقة! إن القفزة إلى الأمام في مجال الأدوات والأجهزة تترافق بقفزة إلى الوراء في ردات الفعل الثقافية وهكذا أصبحت ديمقراطية السوق عامل تفتيت وتفكيك ومع توزيع غير عادل للثروات تنتعش النزاعات القومية. بين التقني والثقافي يبدو أن علينا التمييز بين الظاهرة التقنية والظاهرة الثقافية! تتوفر نفس الأجهزة في أمريكا والصين ودمشق... أما عندما ندرس حالة الثقافات فإننا نقوم بجرد الاختلافات, فاللغات وطرق الأكل والأزياء وطقوس ممارسة الحداد والزواج ... لا يمكن أن تتوافق وتندمج ولا يمكن اختزال الشعوب إلى مهارات تقنية. التقنية تجمع الناس لكن الثقافة تمايز بينهم وهذا من حسن الحظ, إذ لا يمكن أن نكون جميعاً نسخاً متشابهة وإلا لأصبح الكون مملاً! إن الزمن التقني لا يعود إلى الوراء وهو غير عكوس أما الزمن الثقافي - زمن نفسي وسياسي - فلا شيء فيه غير عكوس! هناك عودة للماضي ومن المفارقة أن نجد أنه حيث يوجد أكبر تقدم تقني, يوجد أكبر تراجع ثقافي, لقد اتحد العالم تقنياً لكنه لم يتحد روحياً! يجب ألا نرى في الحيوية المذهلة للثقافات نوعاً من العواقب أو العراقيل التي تؤدي للمراوحة في المكان, بل كعامل إغناء, فالحياة هي هذا التنوع البيولوجي والثقافي, الحياة هي المكان الذي يكون فيه الآخر هو أنا أيضاً دون أن يكون نسخة عني, فأي عالم هذا الذي تتوحد فيه الهوية بحيث يمكن استبدال أي فرد بفرد آخر?
|