تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أيام وخواطر ..الشــــهادة المقدســـــة

مبدعـون علــى صفحــات «الثــورة»
الأحد 23-6-2013
عبد الكريم ناصيف

بالأمس عندما شاهدت صورته وقرأت أسطراً تحتها يخبر عن مأساة إنسان عاش جيل المأساة، قفزت إلى ذهني فجأة صورة شهداء المسيحية وهم يتلوون تحت سياط جلاديهم الرومان دون أن تأخذهم به شفقة أو تذركهم رحمة، وشعرت بالظلم يشد علي بقبضته الحديدية حتى ليكاد يخنقني، شعرت أن كل شيء في الدنيا أهون من الظلم وأخف وطأة، كل شيء حتى الموت.

وتذكرت قول الشاعر إن الظلم من شيم النفوس وأنه كل ما في الدنيا مستعد أن يمارس الظلم تجاه الآخرين حتى أمنا الطبيعة، هذه الأم الرؤوم تمارس الظلم تجاهنا فهي تظلمنا حين تخرجنا من بطون تكره أن تخرجنا إلى الوجود وتظلمنا حين تعيدنا بأيد حبيبة تكره أن تعيدنا.. من الوجود ماذا يهم؟ لتمت روح بشرية لتذهب مئات الأرواح البشرية، هل يهم هذا من لم تر نفسه النور، من عاش طوال حياته في جحور الظلم والظلام؟ كلا، لكي نعرف قيمة الحياة، يجب أن نعرف هذه الحياة، يجب أن نعيشها، أما أن نكون موتى فهذا يعني أننا لن نعرف ماذا تعني الحياة بأصباحها وأمسائها، بإشراقها وشحوبها بأفيائها ونضرتها وأريجها بحرها وقرها، كلا لن نعرف ما معنى هذه الحياة الساحرة الفاتنة فالمعرفة نور والنفوس المظلمة الظالمة لا تعرف النور.‏

حين كان ينطلق إلى أرضه الحبيبة فيقع على ترابها وقوع المتيم على صدر حبيبته ويستنشق عطره وروحه، ويمرغ خديه به مرة بعد مرة كان في صدر جلال شيء أعظم من الموت وأقوى من القدر، كان في صدره شيء اسمه الحب.‏

الحب الذي يشده بألف آصرة وآصرة فلا يجد مفراً من أن يعود إلى أرضه لينعم لحظات برؤياها ليستمتع ولو للحظة بشعور الحرية والخلاص، كان جلال وهو بين أطفاله الثمانية وأمام مواطنيه المليونين المشردين يتلوى عذاباً من شعور مقيم دائم أنه مسؤول عن القيام بعمل ما يعيد به لنفسه كرامتها واعتبارها، كان يشعر أنه مطلوب منه أن يكسر القيد، أن يخرج من الطوق، ماذا سيقول لأبنائه إذاً حين يكبرون فيجدون أن أباهم لم يعطهم حين أعطاهم الحياة سوى المذلة والعبودية والهوان؟‏

كيف سيواجههم يكبرون وفي عيونهم اتهام صريح يكفر عن ذنبه الذي لايستطيع أمرؤ في الدنيا أن يكفر عنه، كيف سيبرر لهم إنه عاش طوال حياته دون أن يأتي عملاً في سبيل حريته وحريتهم خلاصة وخلاصهم وهكذا انطلق جلال إلى الخالصة وصفد إلى قرى الجليل ومزارع الغور وتغلغل المرة تلو المرة، في صدور أعدائه هناك، كان ملاذه الوحيد من الشعور بالظلم وعلى جثثهم المطروحة للموت، كان شاطئ أمانه الوحيد، كان عليه أن يثأر لنفسه لابنائه لتراب وطنه المهين، وهوائه الملوث وكانت المسؤولية شيئاً رائعاً يجذبه بشدة كبسمة طفل تستقبلك عند الصباح فتحمل المسؤولية وراح يبرهن للدنيا كلها أنه مازال للمروءة حماتها الأشداء وأنه مازال للكرامة أشاوسها الذين لا تنال منهم النوب ولا تخذلهم المنون.‏

وحين امتدت إليه الأيدي الباغية الظالمة كان جلال شعلة متقدة من العزم والاخلاص والفداء، كان يخاف على نفسه كيد الأعداء ويخشى أن يناله غدر الغادرين ممن يعمل فيهم ليل نهار ليثأر لنفسه وينتقم لبلده وأقربائه ولكنه لم يخطر بذهنه قط!!‏

أعداؤه الحقيقيون هم أولئك العبيد الأذلاء الذين أحرق قلوبهم الظلم من لم يشعروا يوماً أن عليهم أن يرفعوا حيفه أولئك الذين عاشوا الذل والهوان فما أحسوا به ولا أدركوا أن عليهم أن يضحوا بكل شيء في سبيل الخلاص منه.‏

وحدك أنت يا جلال أدركت أن عليك أن تضحي بكل شيء فضحيت مخلصاً سخياً رائع السخاء ولكنك أدركت أن ما هو أصعب بمئات المرات من الظلم إنما هو ظلم القربى وما هو أصعب بمئات المرات من ظلم القربى إنما هي الخيانة.‏

لقد ذهبت فرحاً راضياً كلنا يعلم هذا يا جلال لأنك قمت بواجبك خير قيام ولأنك علمتنا دروساً كثيرة وزودتنا بالعبر التي لا تأتي إلا بأبهظ الاثمان وأغلاها.‏

رحمك الله يا كعوش فأنت في قلوبنا خالد خلود الحياة، باق بقاء الشمس والقمر، أنت أيها الشهيد العظيم الذي أراد ألا يعيد التاريخ نفسه وألا تستمر المأساة الإنسانية جائرة ظالمة فذهبت كما ذهبت من قلبك «كعوش» فلسطين الأخرى ضحية الغدر والتآمر والخيانة.‏

الخميس 20/1/1966‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية