وواحاته حبا بالشرق , او بحثا عن ليال كانت في الف ليلة وليلة , فما لدى الغرب من هذه الليالي ربما يفوق ما قدمته الحكايات الشهرزادية , حملوا مشاعل البحث لكن من اجل التفسير والتفكيك والقدرة على الاستكشاف والوصول الى الدروب التي يسلكونها الى واحات هذا المكان من العالم.
الغرب وريث الحضارة اليونانية التي هي في جزئها الاكبر والاوسع سليلة الحضارة النيرة التي كانت هنا في الهلال الخصيب , هلال المعرفة والبناء والانسان , ومن على شواطىء المتوسط السوري , وانهار سورية والعراق , وما فيهما كانت الابجدية , والاساطير التي رحلت الى اليونان لتأخذ مداها ولتكون الحكاية التي لا تتوقف عن الانتشار والزيادة في كثافة المعاني والدلالات.
الغرب هذا الذي استطاع ان يحول نفسه الى المركز , ويعيد الدوران الحضاري من المشرق اليه , من حيث الحضارة الانسانية البكر في معناها ومبناها , وقدرتها على الخلق والابتكار , وهي ليست بالضرورة دالة على رقي وانسانية ابدا , فكما هي اختراعات للبيع والشراء , كذلك هي المفاهيم التي روج لها , وجعلها ديدن الثقافة والحراك , واذ به يختبىء وراءها لغايات واهداف.
لايمر يوم او واقعة الا ويؤكد الغرب انه في الاعم الاغلب يعمل على ان يبقى محور الكون والحضارة , والتركيز على نظرية المحور والقطب والاساس , لا مثقفون , ولا مفكرون الا من نجا بأعجوبة من هذه النظرة التعصبية الشوفينية , التي تنظر الى الاخر على انه مجرد تابع , او رقم في احسن الاحوال.
المثقفون الفرنسيون الذين تباهوا بما قدمته كما يدعون الثورة الفرنسية من مقولات , حول الحرية والديمقراطية , وغيرها من الافكار والمصطلحات التي ظن العالم للوهلة الاولى انها الحل السحري , بعض هؤلاء ان لم يكن جلهم , لايرى في الاخر الا تابعا , او عاملا في بستان الزرع.
يروي احد المفكرين العرب ممن تخرجوا في الجامعات الغربية , الفرنسية تحديدا , ونهلوا من الثقافة الحرة التي تشبعوا بها كما يقول في باريس , يروي هذا المفكر انه عندما عاد الى وطنه , وكان تحت الاحتلال الفرنسي عمل مدرسا لمادة الفلسفة , وذات يوم دخل عليه مفتش المعارف كما كان يسمى انذاك, وجده يشرح مبادىء الحرية والاستقلال ,فاض المدرس بالشرح , وعلى حين غرة انهى المفتش الدرس , وحين الانفراد بالمدرس سأله: ما الذي تعلمه لطلابك؟
جاءه الجواب : انها مبادىء الثورة الفرنسية التي درستها في جامعاتكم ورايتها عندكم ادرسها لطلابي , الحرية لاتتجزأ , ليست حرية في باريس وعبودية هنا , وكان الرد القاتل موقفا وسلوكا مخاتلا من المفتش , ما تعلمته هناك في باريس , هو لباريس , لابناء فرنسا , وليس لابناء سورية , ليس لابناء لواء اسكندرون , وليست مهمة زكي الارسوزي ان يدرس طلابه ما تعلمه هناك في باريس.
المشهد ذاته , لم يتغير لم يتبدل ابدا, الا في مرات قليلة, اذ ارتفعت بعض اصوات المثقفين الغربيين منادية بوقف عدوان هنا او هناك, ادانة لمجزرة او جريمة مروعة ارتكبها دعاة الحرية.
الغزو الاميركي للعراق , وما جره من ويلات ومصائب ومآس لم يكن ليشغل المثقفين او المفكرين الغربيين الا فيما ندر , وكنوز الحضارة التي دمرت ونهبت ايام الاحتلال هذا , لم تشغلهم الا عرضيا ومن باب الفلكلور.. انهم يطالبون بالحفاظ عليها كونها ارثا انسانيا , لا , بل ان بعضهم رأى انه من الجائز سرقتها كونها وضعت على قائمة التراث الانساني , اليس هذا التراث انسانيا وللجميع ؟ فلتذهب الى اينما اراد من يحملها.
المشهد ذاته يتكرر في العراق وسورية , دمرت الاثار , ونهبت المتاحف , لم يبق معلم اثري يمكنه الوصول اليه الا ودمروه , او سرقوه , بعض الاثار نقلت الى الغرب , وبعضها الاخر في مشهد مروع تم تحطيمه وعلى رؤوس الاشهاد , لم يبق شيء يدل على عظمة الانجازات الحضارية فيما بين الرافدين الا وكان مسرحا لجرائمهم , والصمت سيد الموقف , تنديد خجول هنا وهناك , وقلق يعرفه بان كي مون , ومثقفون فرنسيون وغربيون مشغولون بالمال الوهابي والخليجي.
اللافت في الامر ان بعض المثقفين الفرنسيين منذ بضعة ايام قاموا بحركة تضامنية مع اليونان , واصدروا بيانا يقولون فيه: من المثقفين والفنانين الفرنسيين الى الشعب الذي ينحدر من اعرق الحضارات علينا ان نفي ديوننا اليكم , ارسطو الذي قدم للبشرية علوم الفلسفة والسياسة والميتافيزيقيا والمسرح والموسيقا والشعر.
للحضارة في سورية والعراق , اين هم من تدمير اثار تدمر ؟ ومدينة نمرود ؟ اين من قالوا: ان لكل انسان وطنين , الاول سورية , وطن الحرف والابجدية , والثاني حيث ولد وعاش؟
الم تقد سورية الحرف الاول , والنوتة الموسيقة الاولى , اللون الارجواني , الم تعط الغرب اسمه ومعناه , الم يقتبس اليونانيون المسرح والفنون والاساطير من بلاد الرافدين؟
اليست الاساطير اليونانية استلهاما من بلاد الرافدين , ومع ذلك لم ينطق بعض هؤلاء الفرنسيين ومعه المثقفون الغربيون بأي موقف يعلن الادانة , ولربما هذا يؤكد ما قاله باسكال بونيفاس في كتابه: المثقفون المزيفون , النصر الاعلامي لخبراء الكذب , اذ قال: يرسم الغرب علاقاته مع العالم الاسلامي \ او العالم العربي , تبعا للسياسة الاسرائيلية وحسب , وهو ما يشكل الرهان بالنسبة للبعض , والانحدار الطبيعي للبعض الاخر , والفخ بالنسبة لبعض غيرهم ممن لايحسبون كل نتائج مواقفهم.
هو الغرب الذي يدفع بالبشرية الى هاوية سحيقة , وليس غريبا ان يتخذ بعض او جل مثقفيه هذه المواقف الشوفينية , والان نعرف ما معنى ان يكون من يدعون الثقافة وتخرجوا في جامعاتهم يحملون لقب مثقف , وهم لايعرفون من مواقف المثقف العضوي شيئا ولكنهم تجار مواقف للبيع والشراء , ولهم في اساتذتهم اسوة حسنة , وقد هان من اشتراه مال النفط الاثم.
ومواقف هؤلاء المثقفين كما قال بونيفاس هي في خدمة اسرائيل ,الكيان الاشني الناتىء بلا جذور.