بما يتخطى المفاهيم والإستراتيجيات. السؤال الهادئ المطروح هو: من المقاوم? وهل من علاقة بين المقاومة والمفهوم?
الجواب: هو بالباب واقف والردى منه خائف فاهدئي ياعواصف خجلاً من جرأته. الواقع أن هناك مفاهيم قلقة مقلقة في تاريخ البشر, أحدثت صراعات, وسقطت من أجلها دماء كثيرة, قبل أن تدخل الأذهان والقواميس, وتتحول إلى مفاهيم ومنها المقاومة التي عانت وتعاني من خلطها مع مفهوم آخر هو الإرهاب, والذي كانت سورية الصوت الأول الذي دعا العالم إلى مراجعة المصطلحات وإعادة تحديده, وشحنها بالمضامين المناسبة. والسبب في القلق, أن المقاوم وهو يشق طريقه بالدم يبيع الحياة جسداً. ويصبو أو يرنو إلى الشهادة ليشتري الموت حياة.
فقراءة تاريخ المقاومات في الأرض من مقاومة البروتون ضدّ بطش الرومان إلى مقاومة بلاد الغال ليوليوس قيصر, ومن المقاومة الإيرلندية إلى الباسك ضد اسبانيا, إلى فيتنام ضد أمريكا وماوتسي تونغ في وجه اليابان, ومن جزائر المليون شهيد في وجه فرنسا الدولة التي لم تتخلص ثقافتها وسلوكها بعد من دمغة المقاومة لألمانيا, بالرغم من انخراطهما في منظومة الوحدة الأوروبية, إلى مقاومات آسيا الوسطى ضد الروس, ومن المقاومة الفلسطينية الجرح العربي والإسلامي المنفتح أبداً, مروراً بالمقاومة الأفغانية والعراقية, وصولاً إلى المقاومة في لبنان أمثلة ونماذج لاتنتهي على ترسيخ المعادلة الجديدة التي ذكرناها لدى المقاومين في فهم الموت والحياة, مايعني بطلان خيارات الغزو في هذا التاريخ وفشل الجيوش النظامية الأكيد أمام المقاومة, مهما أعتت وقويت, فالمقاومة تشابه الأسماك التي سرعان ماتغور وتعوم في بحور الشعوب ومحيطاتها, تمارس إيمانها وأفعالها, لما يمارس مطلقو الشعارات فعل الحياة, وتصبح بعض النخب من الأفراد والدول, تستشعر أحياناً وكأنها جثث هامدة يفرحها الموت بالقوة ولاينقصها سوى الفعل, فتلجأ إلى المقاومة غير العنيفة, لتصون حرية الأسماك بحبرها وصوتها وإيوائها ومواقفها وتبرعاتها.
إذاً ليس مطلوباً القتال العسكري من الدول كلها المتعاطفة مع المقاومة والداعمة لها, ولا من الأفراد الذين يحملون الصفات نفسها.
المقاومة تفرض التقويم بمعنى الاستقامة, وتصحيح الاعوجاج والفساد والمفسدين في الداخل والخارج, ولأنها تدرك أن الإمساك بكل الأسماك في كلّ البحار والمحيطات أمر خيالي, تعشق النخب النضال المتنوع مهما كلف من أثمان, لكن الأسماك لاتعود تكلّ عن الحركة والقتال الذي يتحول إلى عقيدة وجهاد, فيشعر أهل السلطة أحياناً بالعجز الدائم حيال ماتقوم به المقاومة من تضحيات ومايغرقون فيه من فساد, فيولد الإخفاق نقمة لدى صغار وفاقدي الهيبة والملتبسين من حكامنا والمسؤولين?
ليست المقاومة في لبنان, إذاً, معتدية بل تجابه الإعتداءات الإسرائيلية المستمرة في قرون من هوان, وتعصر من الضعف قوة, فيقال عن المقاوم, مثلاً بأنه يتنازع ومازال يقاوم, أي إنه يشارف على الموت, أو هكذا يريدونه أن يموت ويفارق?
نعم, لكنه يقاوم, تحقيقاً للحياة أي تحقيقاً للدائرة المتوسطة التي يفترق فيها البشر, وتتباين فيها الشعوب والدول والسياسات والأحزاب, فيختلفون ويتقاتلون, خلافاً لما يحصل في دائرتي الولادة أعني الأرحام, والموت أعني القبور حيث يتساوى الناس جميعاً.
العلة في المفاهيم لأنها تفقد حرارتها, إذ تبتعد عن الظاهرة التي أولتها والتجارب التي صقلتها, مع أن البحث عنها وتفصيلها هو مهنة الجامعات, ومانشهده في لبنان يكاد يختلف عن معظم التجارب والمقاومات الأخرى في العالم. السبب الجوهري في الاختلاف, هو أن بعض أهل بلدنا الصغير لبنان, وبتحريض وهندسة من الدول الكبرى, واقعون بين المقاومة ومقاومة المقاومة.
تلك هي المعضلة البسيطة الكبرى. بسيطة لمن يؤمنون بالمقاومة أعني بالكرامة والحياة الحرة فعلاً أي بالداخل, أعني بلبنان وطناً جديراً بالإحترام, قادراً, قوياً, وليس منصة أو معبراً للخارج مرة ضد سورية ومرة ضد وطنهم, وكبرى لأن الخارج المستعمر ولانخجل من استعمال هذا المصطلح القديم, يجوفنا سياسياً ووطنياً, فننقسم على أنفسنا في مقدساتنا ودمائنا.
ويبدو بعض العرب واللبنانيين, يناكفون ويقاتلون مقاومتهم ويشوهون صورتها ويناقشونها ويفاوضونها ويحاورونها حول سلاحها ومستقبلها وشكلها وفكرها, حتى عندما كانت تتخبط في دمائها, وتزهو بانتصاراتها, فتكاد تكون يتيمة, قبل أن تنهي مهماتها الوطنية والقومية.
لكن ردود الفعل المرتجلة أوالمستوردة على ظاهرة في المقاومة, من هذا الوزن, راحت تقوي المقاومة وتغذيها وتشد عضدها إلى درجة لاتطيق فيها الضغوط فتحولت, بالمعنى الطبيعي, في لحظة من اللحظات, إلى ردّة فعل داخلية للقاعدة ربما أربكت القيادة وحيّرتها.
هذا مايفترض الاعتراف به في لبنان الذي مازال, بالرغم من كل الحوارات والمصالحات والتنازلات, فوق خط الزلزال في الانقسام الإقليمي والدولي مابين شرق وغرب أو بين عرب وعرب, وبين دين ودين, إن لم نقل بين مذهب ومذهب في الدين الواحد, والأديان كلها واحدة في توحيدها.
لا, ليست المقاومة يتيمة, سوى في وسائل الإعلام اللبنانية المتشظية, وفي أذهان حفنةٍ من رجال سياسة ينصاعون للغرب, أعني لإسرائيل أو لكلّ مايصب في مصالح العدو الصهيوني, هناك خط عروبي يمتد من لبنان إلى سورية فإيران وصولاً إلى أقاصي آسيا, ويرتدّ في التحولات الأوروبية التي تخرج القارة الشقراء من شيخوختها الموصومة بها أميركياً, في أعقاب تاريخ من الأخطاء والممارسات التي لن تخرج منها الولايات المتحدة العظمى البوشية يضاف إليها أزمة الديون العظمى.
كل دولة على قدّها حتى في المصائب. لقد شكلت مقاومته درّة العرب في صراع عربي إسرائيلي لطالما كان مسكوناً بالهزائم والخنوع والذل حيث دبّت مظاهر الشيخوخة في الوطن والأمة في بعدهما الرسمي, بينما بعثت المقاومة اليقظة في الشعوب المغلوبة والمقهورة, في عصر الشاشة السحرية.
لقد تغير المشهد. تكمن الإشكالية الكبرى هنا في التغيير الذي حققته المقاومة في لبنان ومنه. والتغيير هو غير الغير. إنه من القمح البلدي لا من الحنطة المقشورة. هذا هو مفهوم المفهوم. التغيير?
تخاف الكائنات في المياه الراكدة من نقيق ضفدعة, فكيف هي حال السياسيين الراكدين في الصراع العربي الإسرائيلي, أو المتلهفين على العدو باسم البحث عن الحوار ألا يخافون من مقاومة حزب الله ونصره وتنظيمه?
وهاكم, في هذا المجال, جردة سريعة لأقوال المتسائلين والمتسلقين والمعمّمين والثرثارين والشتامين والمسوفين والثعالب والمشاجرين والمنسحبين والعقارب والمساومين والمتآمرين, في السنوات الأخيرة. كلام ممجوج لهؤلاء عن الأهداف الحقيقية للتغيير الذي تحققه المقاومة, حيث لا طاقات بشرية ومادية لاحتماله.
والسبب أن مقاتلة (إسرائيل) وهزيمتها, مثالي ومستحيل وضرب من ضروب الخيال, وتخلق مناخاً يخرّب على أعمالهم ومصالحهم. لابدّ, إذاً, من الإمساك بقرار الحرب والسلم. لماذا نقاتل وحدنا والعرب كلهم يركضون على دروب السلام المستحيل بالجملة والمفرق? لماذا القتال لنا والمفاوضات لغيرنا? ليس هو وقت المقاومة الآن. ونحن بحاجةٍ إلى وقت طويل لدراسة المقاومة واستيعابها.
إنها مقاومة تتناقض مع الأصول ومبدأ الدولة كما يرددون.
وهنا يسأل الكثر: عن أي دولة يتكلمون? ويتابعون: أنتم تريدون التجريب ولبنان ليس ساحة للتجارب, ولذا نراهم يوكلون الأمر باللجوء إلى الخارج في السر والعلن كما إلى الإشاعات وتشويه الصورة والتآمر والتخطيط...الخ, وكله يزيد في الشروخ والانقسامات. لقد بلغت أقوالهم وتصريحاتهم وتعليقاتهم مايذكرنا بذلك الغلام سائلاً أبا العلاء المعرّي:
وإني إن كنت الأخير زمانه لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
قال: نعم. فقال: إنّ الأوائل وضعوا ثمانية وعشرين حرفاً للهجاء, فهل لك أن تزيد حرفاً واحداً, فصمت أبو العلاء ولم يجب.
يحصل أن يطفح الكيل في مخاطبة المقاومة وسورية وإيران. لكن, لقد تبدّل المشهد.
< باحث وأستاذ جامعي لبناني
drnassim@hotmail.com