سنلملم جراحنا بعد نكبات زلزلت كياننا كأسر ذاقت الأمرين من تهجير قسري و ألم نفسي .. و ستبني السواعد ما تهدم ، و لكن هل ستمضي الأمور بهذا اليسر بالنسبة للأطفال الذين عايشوا الأزمة ؟
أم أن الكثير من المشاهد المؤلمة ستنطبع في مخيلتهم لا تبارحها ، حيث كان البعض منهم ضحية لفقدان أو تشوه أحد الأطراف ، كما كان منهم من خسر أحد الأخوة أو الوالدين أو الأقارب المقربين ، و كثير منهم كانوا شاهدين رغماً عنهم على دمار الممتلكات الخاصة و خسارة الأرواح ، و من المتابعين القسريين لتلك المشاهد الدموية على النشرات الإخبارية التي تحاول تصوير الحدث و التركيز على فظاعة الدمار المادي و الإصابات الجسدية القاسية ، في حين يتم تجاهل الدمار الذي لحق بالجانب النفسي و الانفعالي للأطفال الذين أجبرتهم ظروف سكناهم على معايشة هذه الحوادث و التأثر بها حتى بعد انتهائها .
و لأن أطفالنا أمانة في أعناقنا فقد آثرت الكثير من الأسر السورية في المناطق الساخنة الفرار بأطفالها إلى مناطق أكثر أمناً ، إلا أنه من خلال حديث الآباء و الأمهات ما زالت الكثير من المشاهد و الأصوات عالقة في أذهان أطفالهم ماثلة أمام أعينهم ، صور و تخيلات سكنت في أعماقهم و أحداث لا يجدون لها تفسيراً يحاكي طفولتهم البريئة التي لا تفهم لغة الحروب و العنف ، و يؤكد الأهل أن كوابيس مخيفة تقض مضجع أطفالهم ليستيقظوا من نومهم يصرخون و يستغيثون يتفقدون من حولهم ليطمئنوا أنهم ما زالوا على قيد الحياة ، كما تتبدى من خلال سلوكهم الكثير من الانفعالات العنيفة و السلوكيات و التساؤلات الغريبة .
فماذا يقول المتخصصون بهذا الشأن ؟ و ما هي نصائحهم لمواجه اضطرابات السلوكية للأطفال ما بعد الصدمة ؟
قلق و خوف من المجهول
يشير أهل الاختصاص أن عادة ما تستخدم كلمة (صدمة) للتعبير عن التأثر النفسي الشديد، وهي حالة من الضغط النفسي تتجاوز قدرة الإنسان على التحمل والعودة إلى حالة التوازن الدائم بعدها دون آثار مترسبة ، وهناك من الصدمات التي تهدد بخطورة على الحياة أو الإصابات الجسدية والمفاجآت الخارقة للعادة ، فتجعل الإنسان في مواجهة الخوف من الموت و الإبادة و الإيذاء و العجز و الألم أو الخسارة .
إن من أهم تأثيرات الصدمة على الأطفال هي الاضطرابات السلوكية التي تأخذ أشكالاً متعددة، كالقلق الشديد والخوف من المجهول وعدم الشعور بالأمان والتوتر المستمر، فيشعر الطفل بأنه مهدد دوماً بالخطر وأن أسرته عاجزة عن حمايته ، فعلى الرغم من أن الوالدين هما مصدر قوة الطفل وأمانه، إلا أنهما عاجزان عن توفير ذلك.
سلوكيات تعكس الافتقاد للأمان
وكما هو عليه الحال في صدمة ما بعد الحرب والتي تترك آثارها النفسية والاجتماعية بعيدة المدى على الطفل ، فهناك الصدمات الأخرى التي تحدث آثاراً عميقة في الطفل وتسبب له في بعض الأحيان ما يسمى باضطراب ما بعد الصدمة ومن هذه الصدمات المؤلمة: صدمة فقدان شخص عزيز على الطفل كموت أحد الوالدين أو الأقارب، صدمة التعرض لحادث سير مروّع ، وصدمة التعرض لنوع من أنواع الإساءة الجسدية أو الجنسية ، وصدمة التعرض لإعاقة وفقدان أحد أعضاء أو حواس الجسم.
ويعبر الطفل عن هذه مشاعر الصدمة بأوجه مختلفة ، منها العدوان نحو الآخرين والتعامل بخشونة مع الزملاء ، وسرعة الاستثارة الانفعالية ، فنراه يصرخ أحياناً بلا سبب ، أو يغضب لأتفه الأسباب ، ومن العادات السلوكية التي تعبر عن قلق هؤلاء الأطفال نتيجة الصدمة قضم الأظافر والتبول اللاإرادي ، والتي تعتبر انعكاساً لحالة من الأمان التي كان يعيشها الطفل في مرحلة عمرية سابقة ، وهو يحن للرجوع إليها كونها تذكّره بمرحلة ممتعة بالنسبة له ، أو هروباً من الواقع الموجود حالياً.
وفي ظل هذه الظروف التي عايشها الطفل ، لا بد من التدخل لحمايته للحد من تفاقم هذه المظاهر النفسية والانفعالية التي طرأت عنده والتي قد تترك بصماتها على شخصيته على المدى البعيد ، ومن أهم استراتيجيات التعامل معهم هي الطمأنة ومحاولة إعادة حالة الشعور بالأمان ، نظراً لأن الأمان هو من الحاجات الفيزيولوجية الهامة عند الإنسان والتي صنفها بعض علماء النفس بعد حاجات الطعام والشراب والنوم ، فإذا لم يتم إشباع هذه الحاجة سينعكس الأمر بالضرورة على مدى قدرة الطفل على إشباع الحاجات النفسية والاجتماعية الأخرى التي ترتكز عليها ، كالحاجة إلى الحب والانتماء والتقدير .
مساعدتهم على تفريغ انفعالاتهم
و يشير المختصون إلى أن هناك حاجة إلى التفريغ النفسي والانفعالي للمشاعر المكبوتة التي اكتسبها الطفل وقت الحرب ، حيث يعجز الكثير من الأطفال عن الحوار اللفظي للتعبير عما يجول في خواطرهم ويشعرون به ، لذلك يكون اللعب الحر والرسم وتمثيل الأدوار أدوات هامة لتفريغ هذه الانفعالات ، إضافة إلى محاولة إخراج الطفل من دائرة الحرب التي طوقت عنقه طوال فترة من الوقت ، وتوفير الجو الملائم الذي يشبع فيه ميوله واهتماماته ، وممارسة الأنشطة المثمرة والترفيهية ، إضافة إلى الانخراط في الجو التعليمي الذي يشد الطفل للاهتمام بالمذاكرة بعيداً عن آثار الحرب وترسباتها .
إحاطتهم بالاطمئنان
وخلاصة توجيهات المختصين في هذا المجال أنه على الأهل في حال تعرض الطفل لظروف مروعة أن يبدؤوا مباشرة بإحاطتهم بالاطمئنان ولا يتركوهم عرضة لمواجهة هذه المشاهد دون دعم نفسي ، وذلك عن طريق الحديث المتواصل معهم وطمأنتهم بأن كل شي سيكون على ما يرام وأنهم لن يصيبهم شي مع التركيز على بث كلمات من الحب أو تشتيت فكرهم عن التركيز في الحدث المروع الذي وقع ، فهذه اللحظة هي الأهم في حياة الطفل النفسية وكلما تركناه يواجهها وحده يزداد أثرها السلبي بداخله على المدى القريب والبعيد .