ولكن كيف تم التلاقي بين الابداع والحياة؟ وأي الدروس يمكن للأستاذ أن يدعي أنه لقنها حول فن الكتابة ومقدرة الكلمة؟ وهل سيكشف أسرار صناعته؟ وفي حين كان ريكله فناناً يشق خطواته الأولى عندما قدم نصائحه (لم يكن يبلغ سوى السابعة والعشرين من عمره في أول رسالة له عام 1903) فإن الكاتب الايطالي امبرتو ايكو المدجج بالثقافة الموسوعية والمعرفة الفلسفية والتحصيل اللغوي والمهارة السيميائية والألغاز الكهنوتية والخيال الخصب يدلي الآن باعترافاته كروائي ناشىء وقد بلغ واحداً وثمانين حولاً.
تجوال ممتع بصحبة أستاذ الرواية يعود من خلالها إلى علاقته مع الكتابة وأسلوبه فيها. ويكشف الروائي امبرتو ايكو من خلال تنقله بحرية بالغة بين تأمله السيميائي وفنه السردي على حد سواء أن الاختلاف بين الكتابة الابداعية والتجربة النظرية تكمن في الزخم وفي حرية التأويل, في الارتداد وفي الاستقبال الواسع جداً الذي تقدمه القصيدة أو الرواية. ويحدد بشكل أدق قبل أن يضع على قدم المساواة كل من لينيه أو داروين من جهة, ومن الجهة الأخرى ميلفيل ورايس بوروت قائلاً: (لا يقدم الأدباء المبدعون إلى قرائهم صيغة محددة) متحدثاً عن الحوت الأبيض أو القرد الضخم.
ويدعونا امبرتو ايكو إلى تتبعه في كواليس عوالمه الخيالية, وذلك من خلال شحذ أفكاره حول الإبداع الأدبي انطلاقاً من الروايات الست التي كتبها. كيف يمكن للكاتب أن يكسب القارىء؟ في رسالة الدكتوراه التي قدمها حول الجمالية لدى سانت توماس داكين, التي ألفها وكأنها تتعلق برواية بوليسية أو بحث خاص بغرائل: « كنت أعتقد حينها أنه سيكون مسلياً أن أدس قليلاً من السم عندما يتم قراءة كتاب غامض, ولا شيء غير ذلك. وشرعت بعدها بكتابة رواية (اسم الوردة).
ما هو مفتاح النجاح؟ مفتاح النجاح يكمن في البداية بذكرى مرت في الطفولة, حينما كان في السادسة عشرة من عمره زار دير البنديكتين وفتح مجلداً ضخماً, موضوعاً فوق منضدة للقراءة تستقبل شعاع ضوئي من خلال نوافذ زجاجية. أحس في داخله برعشة طفت بعد مرور أربعين عاماً.
ومن ثم تأتي عملية الحمل الأدبي التي قادته إلى زيارة الأديرة الرومانية والكاتدرائيات القوطية, وإلى رسم الخرائط والمتاهات ومخططات بناء, وإلى تتبع صور الرهبان, والتي أصبحت شخصيات. «عندما قررت خوض عالم كتابة الروايات, كنت كمن يفتح خزائن كبيرة» يعترف بذلك امبرتو ايكو, الذي تبنى نفس الطريقة التحضيرية في روايته بندول فوكو وجزيرة اليوم السابق.
ويصر الكاتب امبرتو ايكو على أن الرواية ليست مجرد ظاهرة لغوية, بل إنها عوالم وفضاء وأحداث تملي الايقاع والأسلوب وخيار الكلمات. هل ثمة أسلوب يمكن تتبعه؟ العودة إلى اللاتينية, التي تقول لنا: «التقط موضوعك, والكلمات سوف تلحقه» هل يكون الامساك بالقارىء من خلال ارباكه؟ يكشف لنا امبرتو ايكو تقنياته, على غرار السخرية بالتداخل فيما بين النصوص (الاسناد المخفي إلى نصوص معروفة) سرد التلوي (يفكر الكاتب بنصه ويتوجه مباشرة إلى القارىء) أو تذوق التعدادات (من أجل إضفاء الانطباع باللانهاية والدوار, مثل حالة الراهب سلفادور عندما حكى عن قائمة من الدجالين والمشعوذين والأوغاد والمحتالين) شغف أدبي وخبث ابداعي: فالكتابة لعبة صناديق صينية.