وتهديم اخر حديقة خضراء في تقسيم ليقام بدلا منها مجمع تجاري أو ثكنة عثمانية هو اعادة لاحياء ماضي السلطنة العثمانية وفرض الشريعة الاسلامية .
لقد أخذت الأحداث في بدايتها طابعا عمرانيا واجتماعيا الا انها اتخذت وبسرعة منحى سياسيا مقلقا ومخيفا جذب أنظار العالم برمته وقد شوهت مواجهات ساحة تقسيم والتي لم تتوقف حتى بعد اعلان أردوغان تراجعه عن مشروعه الصورة الذهبية المزيفة لما كان يعرف بالنموذج التركي والتي بنته حكومة أردوغان بهدوء فقد أثبتت المواجهات وعكست الوجه العنيف لأزمات فكرية يعيشها المجتمع التركي وأظهرت التناقضات لنموذج تطور بسرعة مذهلة كما أنها بينت أن لدى أردوغان ارادة واضحة بأنه يريد لعب دور اقليمي مؤثر لكنه يبدو أنه يواجه صعوبات كبرى يضاف الى ذلك أن الأحداث الخطيرة هذه تجري في حي سياحي معروف في اسطنبول على بعد خطوات من الشارع الشهير «استقبال « الذي يعرف في اسطنبول بنشاطه الاقتصادي والتجاري حيث أصبح المكان الأشهر للتسوق تقصده بشكل خاص الطبقات المتوسطة في الشرق الأوسط أي أن السيئ في الأمر أن أحداث ساحة تقسيم أصابت هذا الوجه التسويقي للسلطات التركية .
تركيا التي تبدو ديمقراطية اسلامية كانت علمانية حديثة ومتقدمة كما أن نظامها مدني وقد تمخض عن هذا النظام الجديد اتفاق وسطي اجتماعي يجمع الاقليات الاثنية والدينية لكن ديمقراطيتها تستخدم القوة ويهيمن عليها نظام أردوغان الذي مازال يظهر موقفا متشددا في وجه المتظاهرين كما ينوي أن يترشح العام القادم الى أول انتخابات رئاسية بشكل مباشر وهو يتمنى قبل هذا الاستحقاق أن يجري تعديلا على الدستور بهدف تعزيز صلاحياته .
ان المعارضة تخشى أن تتحول المؤسسات بشكل تدريجي الى قنوات لتسهيل الهيمنة والسلطوية الكامنة من هنا نستطيع فهم ما يجري في ساحة تقسيم يظهر بشكل واضح زيف المفهوم الذي يريد أردوغان تعميقه لأنه وبسبب اتجاهه المحافظ يريد فرض قوانين اجتماعية تراها الطبقة الليبرالية تمثل تراجعا حادا على صعيد الحريات الشخصية من بينها قوننة بيع الخمور التي تم تبنيها مؤخرا في المجلس كذلك حرية التعبير فوسائل الاعلام التركية مثلا تناولت الصدامات الأخيرة بشيء من عدم الاكتراث والتهميش ما حمل المتظاهرين الذين هم في جلهم من شباب ينتمون الى حركة كمال أتاتورك المعارضة الى الانزعاج والغضب الكبير في وجه الشعار الذي رفعه حزب العدالة ألا وهو علمانية منفتحة لكنه يريد من خلاله تمرير المفاهيم الدينية تدريجيا .
ثم ان المدافعين عن حديقة جيزي يتخوفون من النمو العمراني المبالغ به والذي سيجعل من مدينة اسطنبول تفقد وجهها الحضاري شيئا فشيئا كما أن النجاحات الاقتصادية ونتائجها الباهرة هي في واقع الأمر ضريبة النمو العمراني والاقتصادي الذي يختزن نقاط ضعف كبيرة فتركيا لا تستطيع بمفردها تمويل هذا النمو فهي تعتمد اعتمادا كبيرا على رؤوس الأموال الأجنبية خاصة الخليجية كما ينقصها بشكل حاد موارد الطاقة ثم ان الصعود السريع لمستوى الحياة قاد البلاد نحو مجتمع استهلاكي أضر كثيرا بأنماط الحياة المعروفة بتركيا فجاءت الأحداث لتعبر عن التدهور الصريح لرأس المال الطبيعي للبلاد أيضا هناك المضاربات العقارية التي تبدو مقلقة ومنتشرة بشكل كبير وهي تفضح هشاشة نظام أردوغان لذا بدأ الكثير من المحللين يرون في ذلك بداية لأزمات اقتصادية كتلك التي ضربت الاقتصاد الأوروبي ورغم أن أردوغان يسعى الى وفاق اجتماعي ومصالحة مع الأكراد الا أن الأزمة السورية وتبعاتها على فئات الشعب التركي تزداد شيئا فشيئا خاصة على الحدود التي تشد الأنظار مجددا نحو هذه الادارة الهشة , أما سياسة التأثير الثقافية لحزب العدالة في الخارج التي هي خليط من القومية التركية والحنين العثماني يمكن أن تصطدم في الوقت ذاته مع الرافضين لها لتصل الى طريق مسدودة .
على أردوغان أن يعي أن الامبراطورية قد انتهت ومن المستحيل اعادة المصالحة مع مجموعات بشرية في ظل مليه الواضح لادارة سلطوية للنظام العثماني .
تقول الروائية التركية مين كيريكانات :منذ عشر سنوات يجهل رئيس الوزراء أردوغان أي تعريف للديمقراطية ولا يقيم أي احترام للناس الذين لا يفكرون على طريقته , ان نظامه لا يتوافق مع أحد فهو يقرر عن الأتراك كل شيء بما فيه مايريدون أكله وشربه حتى الكتابة وحتى معتقداتنا .
لم نعد نحتمل أن أردوغان يتدخل في أمورنا حتى أنه اذا أمسك شاب بيد خطيبته فذلك ممنوع , كل يوم تستيقظ تركيا على ممنوعات جديدة .
ان الأتراك يطالبون بحرية مفقودة فقد عاشوا 75 عاما في ظل نظام علماني جمهوري لم يتدخل أحد في حياة الاخر خلال هذه المدة وللمرأة حقوق الرجل ذاتها .
ان الشباب التركي الذي يتظاهر لا يعاني من البطالة وهم من عائلات ميسورة أو طبقات متوسطة لكنهم يشعرون بالظلم والاضطهاد وهؤلاء الشباب ليسوا رعاعا ولا سكيرين انهم عكس ما وصفهم أردوغان الذي يدير البلاد بطريقة استبدادية حتى ان المقربين اليه من أصدقائه لم يتدخلوا لاعادته الى جادة الصواب .
في تقسيم وبعد عشر سنوات من هيمنة الخوف هاهي تركيا المعاصرة تتحرك مسلمين وعلمانيين وجمهوريين وأحزابا تقدمية ومعادين للرأسمالية جميع الطبقات الاجتماعية ممثلة وهذا ما يربك أردوغان .
ان هذه المظاهرات هي دليل حي على أن حرية السوق لا تعني تحقيق الحرية الاجتماعية انما يمكن أن تتماشى مع سياسة مستبدة .