لاشك هو موضوع متشعب وكبير ويتضمن الكثير من القضايا التي تحكمه، ومن جهة أخرى هو موضوع موغل في القدم وربما قدم المجتمع البشري، لكنه متجه إلى المستقبل في الآن نفسه، لأن صناع المستقبل هم الأكثر نفوذا في صناعة اللغات، ولعل مايعلمنا إياه التاريخ أن القوي يستطيع تجاوز حدود الأرض التي هو عليها ويتقدم إلى أرض أخرى فيخضع ناسها، إنما يجعل لغته أعلى، لغة السيطرة، وعليه فإن للقوة الفعلية على الأرض الدور الأول في حروب اللغات، ولكن هذه ليست هي القاعدة المثلى، فثمة دول استطاعت أن تحافظ على لغتها وتتوصل إلى تسجيل غلبة على لغة الفاتح.
«العربية وحرب اللغات» كان موضوع البحث الذي قدمه د.جورج جبور رئيس الرابطة السورية للأمم المتحدة في قاعة محاضرات مجمع اللغة العربية، وأشار بدوره إلى نماذج ثلاثة من العلاقات بين اللغات، أولها الأنموذج الطامح إلى الانفصال معلناً اللغة سبباً كافياً لهذا الطموح ويتمثل في إسبانيا وأيضا في انفصال بنغلادش عن باكستان.
والأنموذج الثاني وهو المتشكل منذ عقود طويلة والقائم على أساس العيش المشترك بين اللغات، المتوازي المتساوي والمعلن عن قناعته بهذا النمط من العيش ومثاله الأوضح الاتحاد السويسري، وتطمح كندا أن تكون مثالاً جذاباً لهذا الأنموذج رغم عاطفة انفصالية لدى بعض أهل كيبيك.
أما الأنموذج الثالث فهو الذي يقوم على أساس محاولة دعم لغة بعينها على حساب اللغات الأخرى الموجودة في الحيز السيادي، دعماً غير معلن ولكنه ليس خافياً، ولعل فرنسا أهم مثال لهذا الأنموذج.
العربية.. وحرب اللغات
اللغة العربية هي لغة أولى ورسمية في دول جامعة الدول العربية ولغة رسمية في دول أخرى، كما أنها لغة رسمية في الاتحاد الإفريقي وكذلك في منظمة التعاون الإسلامي، واعتبرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة لغة رسمية في 18 كانون الأول للعام 1973 واعتبر هذا اليوم يوما عالميا للغة العربية، وتوجت لغتنا إحدى اللغات الست الرسمية.
ولكن اللغة العربية تتعرض في الوقت الراهن لمعوقات عديدة ومنها استخدام العامية التي أصبح لها قواميس متخصصة بآلاف الصفحات، وبالطبع المجمع يرفض هذه الظاهرة، ومن المعوقات أيضا هو تكاثر المفردات والتعابير الأجنبية في حياتنا اليومية ولاسيما الإنكليزية منها، يضاف إلى ذلك زهد أبناء العربية بلغتهم وعدم تداولها في بعض المحافل والمؤتمرات الدولية، ولايمكن تجاهل اللغات المحلية في الدول العربية والتي تطورت عبر التاريخ وحافظت على نوع من الاستقلالية عن العربية، وهذا يتطلب ضرورة الإحاطة الكاملة بأوضاع اللغات المحلية في بلادنا، وضرورة التعامل مع التنوع بروح المسؤولية عن وحدة الثقافة العربية المحترمة لحقوق الأقليات الثقافية.
دعم العربية
ولابد من الوحدة العربية لدعم اللغة العربية، وبالمقابل اللغة تصنع الوحدة، وأساليب تحسين الوضع الراهن للغة أكثر من أن تحصى، وتبدأ من تبسيط قواعد اللغة ولاتنتهي بالبراعة في ترجمة المصطلحات، كما أن الخطة الوطنية للتمكين للغة العربية في سورية حافلة بالكثير من القيم، وكان لها شرف تأسيس أول مجمع للغة العربية.
وينتهي د. جبور في بحثه أن يوم اللغة العربية الذي بدأت احتفالاتنا به منذ أكثر من عقد، إنما كانت ولادة فكرته من سورية، من الجمهورية العربية السورية، وعلينا أن نفخر به ونفاخر.
في الختام
الندوات والأبحاث التي تطالعنا بها المنابر الثقافية بين الحين والآخر وفي غير مناسبة وماتخرج به من توصيات واقتراحات لانجد لها أصداء تذكر على أرض الواقع، وربما مانتلمسه من هجر ولحن لتلك اللغة من أبنائها، يؤكد يوما بعد يوم حجم المخاطر التي تتهدد لغتنا العربية في عقر دارها، فكيف من ابتعدوا عن منابعها في بلاد المهجر واللجوء؟