واستعادة أراض سبق وأن سيطر عليها المسلحون الذين دأبت تركيا على تمويلهم منذ بداية الأزمة في سورية، ويظهر تحليل لتطور السياسات التركية حيال سورية ما لحق بها من فشل ذريع في توسيع تمددها وفرض حل يناسبها لمعضلتها (قسد).
ويبدو أن دافع أنقرة الرئيسي يقوم على تعزيز (مكانتها) لتحقيق هيمنة إقليمية جديدة، لذلك فإنها لم تدخر جهداً في بذل المساعي للحفاظ على مسافة محسوبة لعلاقتها مع الولايات المتحدة و(الناتو) ولا سيما جراء الدعم الأميركي لـ (قسد) الذي يعد قضية أساسية لواشنطن في سياستها الشرق أوسطية، كما نجدها أي أنقرة تحافظ على علاقتها مع روسيا أملاً بالتوصل إلى حل دائم لمسألة (قسد).
لطالما حاولت تركيا العمل على التوغل في شمال سورية، واعتقدت أن كل شيء على ما يرام بالنسبة لها، بيد أن عجزها وربما عدم رغبتها في سحب العناصر المتطرفة من إدلب قاد سورية وحليفتها روسيا لتنفيذ عملية عسكرية بغية تحرير كامل سورية من التنظيمات الإرهابية، ومن ضمنها مجموعات تمولها تركيا، ولا ريب أن تلك العملية قد أرغمت الأخيرة على فقدان سيطرتها على نقاط استراتيجية إقليمية أساسية في سورية ومنها الطريق السريع دمشق - حلب ذو الأهمية البالغة، الذي يشكل مركزاً لوحدة الأراضي السورية وسياستها واقتصادها لكونه يربط المحور الاقتصادي لسورية الممثل بحلب مع العاصمة ومناطق أساسية أخرى منها الحدود مع الأردن.
يشكل هذا الطريق أهمية بالنسبة لتركيا لكونه يربط أيضاً سورية بغازي عينتاب، التي تعد مركزاً صناعياً ومنطقة استيراد وتصدير، ووفقاً لما ذكرته تقارير الوسائل الإعلامية التركية فإنه لو بقي الطريق السريع تحت سيطرة مجموعات تدعمها تركيا، لكان من الصعب على سورية بسط سيطرتها على كامل البلاد، من جهة أخرى فإن سيطرة المجموعات الإرهابية الممولة من تركيا عليه كان يعني سيطرة أنقرة الدائمة على شريان الاقتصاد السوري، الأمر الذي لو تحقق لأتاح لأردوغان تنفيذ أحلامه العثمانية الجديدة، وفي الواقع فإن سيطرة سورية التي تحظى بالدعم الروسي على هذا الطريق، والعمل على إعادة تأهيل مدينة حلب يعني انهيار المشروع التركي في سورية بأكمله، وهذا يفسر سبب اختيار وسائل الإعلام الحكومية في تركيا تسمية استعادة سورية للطريق السريع بـ (الانقلاب الاستراتيجي) ضد المصالح التركية.
رغم إشارة الولايات المتحدة إلى دعم موقف تركيا، لكن أردوغان على علم تام أن اعتماده على الولايات المتحدة سيكون على حساب سياساته حيال (قسد)، وبذلك فإن التوصل إلى حل وسط سيفضي إلى هزيمة مشروعه في سورية بالكامل مرة أخرى، ورغم كون تركيا عضواً في حلف (الناتو)، إلا أن مسؤوليه أعربوا في تقارير صدرت عنهم أن دول الحلف لن تنفذ ما ورد في المادة الخامسة جراء مقتل قوات تركية في إدلب، ولن تعمد أيضاً إلى تزويدها بالمساعدة في حال قيامها «بعملية عسكرية» في المنطقة.
إن تركيا التي تعرضت للهزيمة في شمال سورية أخذت تهدد باعتداء عسكري على سورية، وفي حين لا يزال الخطاب الرسمي يسلط الضوء على (المصالح الأمنية القومية) لتركيا، يؤكد الواقع دعم أنقرة للمجموعات الإرهابية المحاصرة على نحو متزايد في سورية، الأمر الذي يعني احتمال فرار عناصرها إليها ليشكلوا تهديداً أمنياً جدياً بالنسبة لأردوغان يكلفه كل ما كونه من ثروة سياسية.
رغم مواصلة تركيا ممارسة ضغوطها على سورية وروسيا عبر التهديد بشن (هجوم) عسكري، فإن الحقائق على الأرض تؤكد أن خيارات أنقرة أصبحت في أدنى المستويات، إذ من المستحيل أن تضع سورية طريق دمشق - حلب على طاولة المفاوضات، وهذا يعود أيضاً لعجز تركيا وعدم رغبتها في تنفيذ اتفاق إدلب، كما ينكر أردوغان أن الوضع في إدلب وصل إلى ما هو عليه في هذه الفترة نتيجة لعدم نية تركيا الوفاء بالتزاماتها المتضمنة القضاء على فصائل (القاعدة)، لذلك تقوم سورية وروسيا بما كان يجب على أنقره اتخاذه ألا وهو سحب التكفيريين من المنطقة.
لا ريب أن الحرب لن تعود بالفائدة على تركيا، وإن كل ما يمكن أن تأمله يتمثل بالتنسيق مع سورية وروسيا لتجنب الحرب وتحقيق مصالحها الأمنية من خلال إبعاد (قسد) عن المناطق القريبة لحدودها، وفي هذا السياق أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن (من المسلم به قيام القوات السورية بالرد إزاء تلك الاستفزازات غير المقبولة مؤكداً التزامها بالاتفاقيات المتعلقة بإدلب ولا سيما اتفاق وقف إطلاق النار).
من الواضح أن تركيا تكبدت خسارة باهظة في سورية، وليس ثمة سبيل لدفع القوات السورية على الخروج من المنطقة الخاضعة لسيطرتها، ومن المنطقي أن يعمد أردوغان إلى تعديل موقفه وفقاً للحقائق الواقعية وبطرق لا تعرض مصالح بلاده للخطر مع روسيا، ورغم التوترات كافة فإن هذا يفسر سبب استمرار القوات التركية بالمراقبة المشتركة مع روسيا للمناطق الواقعة شمال سورية، ولا سيما أنها لا ترغب في عودة القوات الأميركية مع حلفائها (قسد) إلى مناطق الحدود السورية - التركية.