واليوم نتحدث عن أم, قاومت الرغبة بالموت, بعد أن فقدت معيل أسرتها المؤلفة من تسعة أولاد, بإرادة العيش من أجلهم, فلا تزيدهم يتماً فوق يتم, ولا تكبدهم حزناً على حزن..
ما وضع أمامنا السؤال:
هل تنتهي حياتنا فعلاً عندما نفقد من نحب?!
الآن بدأت
عرفتها منصهرة فيه, وكأنها تستمد نسغ حياتها منه, فهو منذ أن خطبها في الثامنة عشرة من عمرها, حبيبها الأول والأخير, وبطلها الذي اختصرت فيه رجال الأرض, كانت تعشقه إلى حد الجنون, وتحبه إلى حد الحمى.
أما أولادها التسعة بأعمارهم المختلفة التي تتراوح بين أربع سنوات وتسع وعشرين, فقد كانوا إرثها الذي تعتز بهم وثروتها التي لا تقدر بثمن.
عايشتها في بداية فاجعتها فيه, وقد رحل مبكراً في الخامسة والخمسين, أقلقتني في البداية غيبوبة لم تكن تريد أن تصحو منها أبداً, وشغلني تأكيد أطبائها بأن حالتها من سيىء إلى أسوأ..
وفي مراسم التشييع والدفن, كنت أراهم يحملونها مغشياً عليها من كثرة النواح والبكاء.
كان هذا في بداية العزاء, أما في الأربعين, فقد بدت لي إنسانة مختلفة تماماً, فقد عزت عليها دموعها, ورحت أقرأ في نظرات عينيها حزم الأب إلى جانب عطف الأم.
كانت تهدهد جراحهم بفقدان أبيهم في أحضانها, وتلملم بقبلاتها الحنونة دموعهم ولما سألتها عن أحوالها, قالت لي: الآن بدأت, فلا بد من أن أعيش لأجلهم.
وحقيقة هي عاشت بعد أن وضعها موته على حافة انهيار, من أجله وأجلهم معاً كي ترعى حلمه بهم الذي لم تكتمل ملامحه بعد, وتسقي الغراس التي زرعها في كنفها, وسقاها قبيل أن يغادرهم من شرايين قلبه.. هي إذن متلازمة الحياة والموت, يسقط البعض أمامها منتحراً في لحظة ضعف, وينهض البعض الآخر ليكمل الرسالة على أكمل وجه.. وما إن تحول فقيدهم إلى صورة معلقة في صدر البيت, حتى بدأت أسمع هدير نسغه الجاري في عروق أهله, الذين استوطن ذاكرتهم وأفئدتهم, ورغم كارثية الموت, ثمة شيء أثبتت هذه المرأة أنه يستحق العيش, ومع إشراقة شمس نهار جديد, كان لا بد للحياة أن تستمر... وهذه حكاية قيامة امرأة....