تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


السياسات العربية.. وطقوس المشهد القادم

شؤون سياسية
الاربعاء 24/10/2007
د. أحمد الحاج علي

صار أمراً ضرورياً أن نتفاعل مع الأحداث السياسية الراهنة بطريقة الرصد وليس بمجرد المتابعة في الموضع أو بأسلوب الرؤية الذاتية, إن ما يجري في المنطقة الآن يؤكد كل الضرورة لكي ندخل في منطقة الرصد وهي التي تقوم على عوامل جمع شريط الأحداث واستبيان الخصائص الداخلية الثابتة

لما يجري الآن في المنطقة, ولن يكون الأمر سهلاً لاسيما أن العقل العربي بما فيه السياسي والإعلامي والنقدي مازال أسير الذاتيات والروايات الملفقة وأوهام الوجاهة, وعلينا أن نتذكر بصورة عنيفة هذه الأيام عناوين ثلاثة:‏

أولها أننا في قلب الحدث, في محرقه تماماً وما زلنا الهدف للمستعمر وسياساته وأساليبه أي أن الرصد الآن يتصل بعمق ذاتنا, بالتحولات القادمة وبالنتائج التي سوف يستقر عليها مصيرنا بصورة عامة, والغريب بالأمر أن البعض ما زال يتعاطى مع الواقع السياسي باعتباره شريطاً مثيراً للدهشة أو باعتباره وصياً وقيماً على الواقع أو باعتباره متفرجاً أنيقاً يرى ويسمع ولكنه لا يعقل ولا يستوعب ولا يدمج ذاته فيما يراه ويسمعه وهذه إشكالية خطيرة في الداخل العربي حيث نلاحظ أن الضخ الإعلامي العربي صار جزءاً من المنسوب الفني والتكتيكي لآلة الغرب الإعلامية الجارفة, صار العرب وصافين يسردون بعقلية الفهلوي والمحايد وكأن كل ما يجري من تحولات خطرة هو مجرد شريط سينمائي يقدم الدهشة والفرجة وخدر الأفكار وانسياح الرؤية في مجاهل لاعلاقة لها بالواقع.‏

أما العامل الثاني فهو أن العرب استجابوا لتجزئة الحدث والخطر بموازاة التجزئة السياسية والجغرافية نفسها, فكل حدث موجه للعرب بعمومهم تعيد القوى الحاكمة تمزيقه وتكتفي بمجرد التعامل مع حصتها القطرية أو الذاتية وهذا هو الذي أدى إلى أن تستوطن في الواقع العربي الراهن خيارات الصراع الذاتي والتباين الموضعي, والذين يديرون المشروع الخارجي يأخذون بصورة مستدامة الوضع العربي بكليته لأنهم يعلمون أن التجزئة المفروضة من الظاهر ليست كافية لكي يثبتوا جدارة مشروعهم ويحصلوا على الاطمئنان الزمني والتاريخي لما يخططون ولما ينفذون مما خططوا له.‏

أما العامل الثالث فهو الذي تقدمه الصورة المتناقضة والواقعية التي تفرض حضورها وتمد استطالاتها على كل شيء في الوجود العربي, هناك مخطط بنيوي تنفذه القوى الاستعمارية الراهنة يقوم على الشمولية الأفقية بحيث لا ينجو موقع عربي من تأثيرات المخطط وعلى امتداد عمقي بحيث يدخل في الاستهداف الاقتصاد والموقع,الثقافة والقيم, عناصر الهوية ودرجة التطور المادي, هذا هو الجزء الأهم من الصورة وفي الجزء العربي المقابل نرى مباشرة هذا الترهل وهذه اللامبالاة وكأن الحكام العرب والنخب الخادمة لهم قد تحولوا إلى مجرد أوعية مثلوجة لها نهم الاستقبال وقد سحبت منها معايير الإحساس ويقظة الوجدان واحتمالات الخطر القادم. بخطى وئيدة ومتسارعة في آن واحد.‏

إن هذه العوامل تدخل في بناء الوصف العام لما يجري في منطقتنا العربية وبتأثيرات كهذه وبملاحظة العوامل واستثماراتها حدثت التحولات السلبية الكبرى ولنلاحظ الآن هذه المفارقة المرة, المشروع الأميركي الصهيوني في الذروة والاستجابة العربية في الحضيض,السياسات وأدواتها حارة ملتهبة, والحكومات العربية تتمتع ببرودة الأعصاب وجمود الحواس وغياب الوجدان وكأنما كل واحد منهم يقول سوف أضمن ذاتي إذا أنجزت سلوكين, سلوك ينشر الموضوعية والفرح المغمس بالقهر والدم ويوصل رسالة للأجنبي بأننا غير منزعجين من مشروعكم وممارساتكم بل نحن نعتمد هذه الممارسات ونعتنقها بلا تحرج, إنها سلوكية تقبيل يد الجلاد والدعاء لآلة التدمير أن تمارس فعلها بدون محاذير وبدون مقاومة, وسلوك آخر ينطلق من فكرة جهنمية هي (بغداد تكفيني) ونعرف أن هذه الفكرة لم تعصم آخر خلفاء بني العباس الذي شطرته خيول التتار إلى نصفين برغم ما قدمه من استسلام غير معهود تاريخياً.‏

هذا هو منطق الخطر ومصدر الخطر معاً, البحث عن استرضاء العدو والانكفاء إلى حدود القصر والرصيد المالي والخدم والحشم والحياة البهيمية على حساب الجماهير وبطريقة سرقة لقمة عيشها وسفح المال والقرار أمام إرادة الأجنبي الزاحف كالوباء أو كالجراد إلى ديارنا (غير العامرة).‏

ولا تقف المسألة عند هذه الحدود, لقد اكتسبت شرائح عربية كثيرة خبرة التلفيق والتقاط الأخبار والمعلومات المضللة وأنتج الواقع العربي المهان عقولاً ومؤسسات, أقلاماً ووسائل إعلام اعتمدت الإهانة نفسها ووجدت في الإدعاء والمزايدة ضالتها المنشودة وهذا ما نراه بصورة مباشرة من خلال النمط الإعلامي والثقافي السياسي الراهن في الوطن العربي والذي أنجز وظيفة فاحشة لم تكن لتخطر على بال الشياطين والمستعمرين أنفسهم وهي التي تبدت في مظاهر ثلاثة:‏

1- في مظهر الانخلاع من الواقع العربي واحتلال زاوية مصنعة لها شكل المرتفع والبعض يعتبرها قمة وأساسها لبنات وأوراق جدران زاهية ولوحات يذكرون فيها اسم الله ورسوله بلا حياء وهم يرون أو يقدرون أن اللعبة هذه سوف توصل رسالة إلى المستعمر بأننا معه وتحت تصرفه وتوصل رسالة إلى الإنسان العربي الدرويش بأننا في موقع إيماني واحد والدليل عل ذلك هو لوحات التجارة باسم الله الأعلى وباسم رسوله الكريم, إنها ميزة هجينة لم يعثر عليها أعتى المجرمين والسفاحين, الآن قبائل السياسيين والإعلاميين والنخبويين والحزبيين العرب (أبدعوا) في اجتراح المعجزة بعقل منطفىء وغرائز مفتوحة وادعاءات أخطر ما فيها العداء لله ورسوله والمؤمنين.‏

2-أما المظهر الثاني فقد تشكل بقنوات خلفية ومستورة صارت تمارس وظيفتي التسويق والتهريج, الأمر الذي أدى إلى حالة مرافقة للمشروع الاستعماري ضاعت فيها الحدود وغشي الظلام فيها الحقائق الأولى للإنسان المعاصر أعني أي إنسان على وجه الدنيا.‏

إن لدى العرب ماكينة إعلامية ثقافية سياسية بمليارات الدولارات وتمارس دوراً ترويجياً وتعهيرياً يقدم للموت المجاني ويحاول أن يحنط الوجدانات ويداعب الغرائز بفتح الأفق أمامها ويلقي إليها بالفتات عبر الأجساد العارية والقصور المحمومة والفن الهابط والمقتنيات الاستهلاكية ومخاطبة الغرائب والطرائف, هذه المليارات بآلاف الخدم تؤدي فعلاً مجرماً حينما تستقبل البرنامج الاستعماري وتبثه إلى الداخل العربي عبر نزعة الرضا عن هذا المشروع وعبر التبديل القسري لمعايير الحياة العربية وأولوياتها, هناك مسؤول اسرائيلي أظنه شمعون بيرز رئيس دولة الكيان الآن يقول في جواب له عن سؤال يتصل بدمج الكيان الإسرائيلي في البيئة العربية كانت الإجابة تثير الدهشة ولكنها بطريقة شر البلية ما يدهش وليس ما يضحك يومها قال بيريز الأمر طبيعي أن تكون اسرائيل جزءاً نخبوياً عضوياً في المساحة العربية وأن ننتسب للجامعة العربية لكن المشكلة ماذا لو عرضوا علي أن أكون أميناً عاماً للجامعة العربية نفسها.‏

وها هو صحفي فرنسي يكتب بعد استطلاع في المنطقة بأنه مندهش تماماً من الحال العربي كيف يتحدث البعض عن مشروع استعماري واستهداف غربي وعن حالة قلقة وبائسة. يتابع الصحفي, لم أر في الوطن العربي بل في العواصم العربية سوى الأنوار الزاهية والسهر حتى الفجر وسوى القصور والغواني والمجاملات الاجتماعية, كان آخر بند يتحدث به من قابلتهم هو الهم العربي في مواجهة المشروع الأميركي الصهيوني, من المثالين معاً نستخرج العنوان الذي نرمي إليه هناك تزوير عربي في الداخل العربي, في جسد هذا الداخل وروحه في مفاصل الأمة واحتمالات مستقبلها.‏

3- ويأتي المظهر الثالث الخداع والمفجع من خلال السخاء المسموم في مطاردة أي بقعة نور في الداخل العربي والتحرك باتجاهها والعمل على إجهاضها بطريقة البلعمة وها نحن نرى التطبيقات أمام أعيننا دون توقف.‏

إن المقاومة صارت إرهاباً وعلى المسؤول العربي الرسمي وغير الرسمي أن يقدم حصته وخبرته في التضليل والتشويه, وصار البعض ينتشي بالألقاب التي تغدق عليه من أباطرة الهمجية في عصرنا هذا وكل قزم يتطاول مدعياً بأنه قد تمرد وطال, وحينما تعبر سورية عن نفسها بالموقف والقرار وبفتح الآفاق في الأطراف وعبر العلاقات مع الجيران تركيا مثلاً وإيران مثلاً حينما يحدث ذلك يستنفر الإعلام السياسي العربي قوته وخبرته والطرح مضلل مشوه.‏

يقولون سورية تهرب من عزلتها العربية إلى تركيا وإيران ويقولون سورية تقايض, تعطي للقرار التركي في شمال العراق مسحة من الموافقة لعل الأتراك يعطونها لمحة من الدعم والتضامن, إنها المنهجية المعهودة في خدمة المستعمر ومشروعه وأدواته, كم كان الأجدى بالإعلام العربي أن يتذكر ويذكر الحقيقة بأن سورية لا يشرفها أن تلتحق بجوقة العملاء الرسميين وهي محاطة بجماهير عربية واسعة وبمواقف شعبية لا تغيب وأن سورية لا تقايض لكنها تناقض المشروع الاستعماري الصهيوني بلا هوادة, بقلب سليم وعقل متوهج وخبرة بمعادلات العالم الراهن.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية