أوسكار وايلد لم يعمر طويلا فقد رحل شابا غير أنه في روايته صورة دوريان غراي يرسم صورة رحبة لكل عوالمه مكثفا أفكاره ومتعددا في شخصياته البارعة ولاسيما في حواراتها الفنية التي تنفتح على جدل فلسفي يذكر بمحاورات أفلاطون, ووايلد في صورة دوريان غراي-إذن- يعيد صياغة ذلك الجدل عبر فصوله العشرين والتي تتبدى فيها الحقائق الخاصة بالشخصيات تدريجيا عبر شخصية رئيسية هي شخصية دوريان غراي الفتى الذي ألهم رساما هو بازيل هولوورد الباحث عن المثل الأعلى أو الجمال المطلق ليرسم له صورة سوف تشغلنا طيلة الرواية ولعلها (كأيقونة) ستتجلى كذلك بتبئير الروائي لها- وايلد بكل نقائضها ومفارقاتها الملعوبة رواية تختزن الكثير من سحر السينما وهي تصور شابا لاحد لجماله أمام الفنان- هولوورد الذي وضع فيها من نفسه أكثر مما ينبغي هل هو السر الخفي في دفاعه عنها بل في تمسكه بدوريان غراي الذي يحاكي أدونيس جمالا بل هو مخروط من عاج كسته أوراق الورد وربما كان ( الاله نرسيس) قلبا وقالبا يتماهى الفنان بصورته الأكمل لنكتشف تلك ( الوثنية الجديدة) عبادة الجمال.
ثمة شخصية أخرى سوف تستغرقنا بنظرياتها الفلسفية وكلماتها الرنانة إنها اللورد هنري وتون الذي يختزن في خياله (رسامي طوكيو ذوي الوجوه الشاحبة وكيف يسعون إلى التعبير عن معاني السرعة والحركة بفنهم التقليدي الجامد).
( هنري وتون) يدفع ثمن جاهه وحسبه وبازيل هولوورد يدفع ثمن ذكائه: وقته ودوريان غراي يدفع ثمن جماله وشبابه!.
واذا كان الفنان ليس بجمال دوريان هو نموذج في البشاعة (ضخم الوجه) فتعلقه بصورة غراي ينم عن صورته تكتمل به وليس ما يرسمه نموذجاً فقط لذا فهو يكشف عن شخصيته هو وعن سر روحه ولتلك الأسباب لن يستطيع عرضها.
في صورة دوريان يتكشف لنا العصر الأول الذي ظهرت فيه أداة جديدة للتعبير الفني والعصر الثاني الذي تظهر فيه شخصية جديدة تصبح موضوعا للفن لاتقل خطرا بظهورها عن وجه انتينوس في الفن اليوناني القديم واختراع الرسم بالزيت بأهميته عند أهل البندقية.
وما الذي يحكم رواية وايلد العبقرية أم الجمال?! إنه الجمال الذي يفتتن به دوريان غراي بوصفه ماضيا غير مألوف وبقدرته على استثارة الخيال فصورته المتعددة سوف تفصح عن أقانيم الرواية وزخمها الفني فهو الموسيقي والضليع بنفسية المرأة العاطفية والفيلسوف النابه ( المرأة تمثل انتصار المادة على العقل, الرجل يمثل انتصار العقل على الضمير ونراه مفاضلا بين المرأة الطبيعية والمرأة المصنوعة من زجاج فسر الحياة الحقيقية هو البحث عن الجمال ومن أجله تشرح النظريات في الحياة والحب واللذة والخير ومآسي الحياة والفردية والسعادة ومناهضة مقاييس العصر الذي نعيش فيه وعلى ذلك فدوريان قد علمته الصورة أن يتعشق جمال تكوينه, الصورة التي ستصبح ضميره ومقياس الخير والشر تلاحقه فتتغير في كل طور تزداد بشاعة كلما نظر اليها يقرر قتل الفنان ليحتفظ بالسر لنفسه النضارة والشباب, تلاحقه كوابيس الموت وأشباح جيمس فين وآلان كامبل ينزلق إلى نزواته ويقترف خطاياه الصور, تفقد نضارتها كلما انزلق في تهتكه. يقاوم - غراي- غوايته والصورة تتغير (الوجه الجميل أصابه كدر خفيف والفم الباسم أفسدته قسوة واضحة) أخيرا يقرر تحطيم صورته ليحتفظ بنضارة الشباب وبجماله المكنون ..يسقط أرضا ويهرع الخدم ليجدوا المدية في قلبه أما الصورة فعادت إلى جمالها لتسجل جماله وشبابه النضر أما هو دوريان فقد كان كريه الملامح مغضن الوجه يابس البدن فجماله وفقا لوايلد لم يكن إلا قناعا وشبابه حلة مسمومة والصورة لم تعد مسخا حيا كانت ضميره الحي, مرآة نفسه.
أوسكار وايلد المسكون بالكمال وبالموسيقى والفن أراد أن يستبطن المثال ويستبطن روحا صادقة تسكن الدغل المظلم وتمشي خفيفة بين الحقول بحسه الساخر وبانتقاده لأخلاق انكلترا وأجوائها والتفكير الفلسفي وأفكار الاصلاح الديني الذي شاع فيها وبفحصه لاخلاق الطبقات وبمنهجه النفسي التجريبي ولاسيما بمقارنته معنى » التفكير السليم) والخطيئة والتسامح والقيم الغيرية وسواها ولعله أضاف في روايته المحكمة بتوترها الدرامي ونصوع لغتها وعلاماتها الثقافية في الصور المتعددة لدوريان غراي الخيميائي عاشق العطور والموسيقا والاحجار الكريمة قارئ تعاليم الكهنة العارف بأنواع الاقمشة العارف بالحقائق والاساطير وسوى ذلك والأهم فلسفته التي تفصح عن شيء من سيرته سيرة شبابه ورؤيته النسوية بل مقاربته للفن كوسيلة اشباع للحواس بالاختبارات غير المألوفة وللحياة الواقعية والخيال, إنها مأساة الايمان وغطة الخيال كان معاصره جيمس جويس وهو يكتب » سيرة الفنان في شبابه) قد ألهب خيال أوروبا قريبا من خيال وايلد مع اختلاف الروايتين.
فتمجيد الجمال والبحث عن المثل الأعلى ليسا ذريعة روائية لدحض » أخلاق انكلترا) آنذاك أوردة الفعل على »لاهوتية طوباوية) فحسب بل أراد وايلد أن يقف على تلك المآسي الحقيقية الخالية من كل تصميم فني ليعلن وحشيتها الساذجة وتناقضها المطلق وقلة مدلولها وافتقارها التام لكل أسلوب, هذا ما انطوى في » شيفرات) روايته الأجمل والأكمل بمتعتها الفكرية واللغوية والبنائية وبذروة سخريتها التي ترى لو أن رجل الكهف تعلم كيف يضحك لتغير مجرى التاريخ.
صورة دوريان غراي تضعنا على شفا مفارقة ما بين » رؤيا قديس من العصور الوسطى أو اعترافات فاسق أصيل من أهل جيله).
صورة دوريان غراي. - تأليف:أوسكار وايلد . - تعريب: لويس عوض. -< الناشر: دار الخيال للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت- الطبعة الأولى:.2007