وحده الشاعر يمكن له أن يغرق سعيدا في لجة الأسئلة الصعبة رغم أنها خطابه المصاغ من ولع أصيل بالأجوبة المرة والكثير منها يكون بلون الغرور حتى لا تشنقه الأجوبة قبل الأوان.
يقاتل الحزن قبل أن يقتله, يمنح نفسه- مؤقتا - للأيام ليمارس أخذها عنوة فيما بعد, ويتمتع بتمويلها إلى لغز يكون مثاله الأعلى... والشاعر الإيطالي جوزييه أونغارتي يعد من أعتى الشعراء الذين ناصروا فضول الشاعر وعاشوا قيد خطوة من الخيال الذي يتجه إلى اللهو الذي لايجرؤ عليه إلا المبدعون وذاك الذي يمتلك قلما مشغوفاً بلذة البوح وتزيين الورق بغزوه.
جوزييه أونغارتي (1880-1970) شاعر إيطالي ولد في الاسكندرية بمصر وعاش بها حتى الرابعة والعشرين ثم عاد لإيطاليا لاستكمال دراسته التي لم يتسن له إكمالها بسبب الحرب العالمية الأولى.. ومؤخرا تسنى للقارىء العربي التعرف عليه شعريا عبر ديوانه الضخم الصادر حديثا في القاهرة والذي قام بترجمته الفنان المصري عادل السيوي.
يعد النقاد أونغارتي أنه هو أول من ابتعد عن الالتصاق بالقواعد الشعرية واعتمد أسلوبا جديدا يرتكز على (التكثيف) حيث اعتمد على الدقة الشديدة في انتقاء كثافة الكلمة في أقل السطور لهذا تميزت دائما قصائده بالقصر الشديد والسطور القصيرة لأنه قام بكتابتها في فترة الحرب, فكان يكتب قصائده على أوراق الشجر: (لم يتبق من هذه البيوت / سوى طلل من جدار/ ولم يتبق/ حتى القليل من كثيرين/ كانوا يشبهونني/ ولكن لم يصنع من القلب صليب واحد/ إنه قلبي/ الأكثر حسرة).
بجمال بالغ يشرح لنا بقصائده كيف عاش العناء متنكراً بالحياة واصراره على التمسك بناصية قلبه أمر كلفه الكثير ودفعه لأن يغني رغم زنزانة الحزن وكابد ما كابد بسبب عناده الأصيل بألا يخلي مكانه للغبار.. لهذا تبدو قصائده القصيرة كنبضة واحدة لا نهاية لها ولا حد لدفقها, كصيحة تستجوب الآتي ومثلما تريد كشفا عن العالم تريد تفسيراً للماضي.
(بعد هذي الغشاوة/ واحدة وراء أخرى/ تستيقظ النجمات/ استنشق العليل الذي يملؤني بلون السماء/ أعرف نفسي من جديد كصورة رشيقة كدور في سعادة تخلد).
كجرح بلا خنجر تنساب قصائده, تارة تبدو كضحكة وتارة تغدو وكأنها جهشة تنبىء عن سيل من البكاء المؤجل, والذي ربما لا يحصل.. و كثيرا ما تبدو الحقائق شفافة يسوقها لنا أونغارتي كزيزان محصورة في قنينة شفافة.
أروع ما في الشعر أنه يلثمنا بالوقت المناسب كبلسم يريد أن يشفي حتى العمق.
الأشعار صادرة عن دار ميريت ترجمة عادل السيوي2007