ومن (جدله) بالتحديد? يكشف كتاب (جدل الفكر) الذي نحن بصدده, والذي يلاحق تطور الجدل بعد هيغل, عن صراع دار بين الفرنسيين والانكليز ولكن بأسلحة ألمانية.
فالفيلسوف الفرنسي (هاملان) غاضب على التجريبيين والذين هم الانكليز بالطبع, وهل قلت أن هاملان غاضب فقط, بل هو في أعلى درجات السخط, وهو لكي يلقنهم درساً في الفلسفة العقلية (المثالية) يحيل جدلاً الفكر إلى مشكلة معرفية (ابستمولوجية) فحسب, ويشرع في بناء نسق متماسك يناقش فيه المقولات الفلسفية الشهيرة: العلاقة, العدد, الزمان, المكان, الحركة, وهو يبدأ بالعلاقة التي أولى حبات العقد ولا بد لشرح مقولة الحركة من إطلاق مقولة العلاقة من عقلها.
وهاملان يأخذ على عاتقه القيام بأمر لم يقم به هيغل كما يزعم, وهو التفريق بين التناقض والتضاد, وبرأيه أن الجدل يتقدم من خلال التضاد وليس التناقض, هذا التناقض الذي يراه تضاداً مطلقاً, ونحن لا ندري إن كان (هاملان) يشير إلى أن هيغل قد تعمد عدم التفريق أم أنه لم يع الفارق بين التناقض والتضاد, أم أنه لم يقم وزناً لهذا الفارق. وعلى العموم تلك نزعة فرنسية خالصة, فلا يفتأ الفرنسيون يؤكدون أنهم هم من وضع تقاليد المذهب العقلي (مع ديكارت) ثم انهم لا بد أن ينتقضوا من غير الفرنسيين, حتى ولو كانوا ألماناً, وما يفعله هاملان مع هيغل, سبق لفولتير أن فعله مع فلاسفة القرن السابع عشر من غير الفرنسيين عندما سخر من مقولة »السبب الكافي)..
في مواجهة »هاملان) الفرنسي الابستمولوجي, ينتصب مكتجارت الانكليزي, الذي سيناصب الابستمولوجي والابستمولوجيين العداء, وسينظر إلى »جدل الفكر) بوصفه مشكلة وجودية »انطولوجيا).
ألم نقل أن هؤلاء الانكليز تجريبييون, بل إنهم لا يستطيعون إلا أن يكونوا كذلك, ومكتجارت الذي اتبع المنهج الاستنباطي لم يستطع إلا أن يلجأ إلى التجربة, على الأقل في إثبات أن هناك شيئاً موجوداً وأن لهذا الموجود أجزاء, ها هنا لجأ مكتجارت إلى الحس والادراك الحسي, كما ناقش مقولات مثل الوجود الفعلي, الجوهر, الكيف, التمايز, العلاقات, ويجهد مكتجارت في تأكيد جدل الفكر بوصفه مشكلة انطولوجية, وهنا أيضاً يبرز هيغل الغامض الذي لم يفرق بين الوجود والواقع, على الرغم من أن مكتجارت نفسه لم يستطع إثبات الفارق بينهما, وظل هو نفسه غامضاً في هذه المسألة, ولكن كيف يمكن للتجريبيين الانكليز أن يتخلوا عن أفضل مميزاتهم وهو »الغموض).
إذا كان هاملان قد درس الفكر بوصفه مشكلة معرفية, فإنه يكون قد درسه من زاوية الذات, وإذا كان مكتجارت قد درس الفكر بوصفه مشكلة وجود, فإنه يكون قد درسه من زاوية الموضوع, وتالياً كان لابد للمحكمة أن تبرز أخيراً »كالغيث يهطل فوق الصحراء).
إنه »لافيل) الفرنسي أيضاً والذي يحاول أن يبدو حكيماً, فيدرس جدل الفكر من زاوية الذات والموضوع معاً, وبمعنى أدق الذات المنغمسة بالعالم, وهنا أيضاً تطل أسلحة هيغل فيما يختفي هذا الأخير ليظهر كل من بروتاغوراس وديكارت, وبهذا الشكل ينأى لافيل عن هيغل تماماً, فالهم الأساسي لديه يتمثل في كيفية الانتقال من المعقول إلى المحسوس, بحيث تضعنا مقولة »الكيف) عند لافيل على تخوم جديدة هي تخوم الانتقال من نظرية المادة إلى نظرية الاتصال بهذه المادة, ولافيل المثابر في تقصي وفحص الديمومة والقوة والحركة يصل إلى ما يطلق عليه »جدل الحواس) لتغيب بذلك الفلسفة الألمانية وتحل محلها »الحكمة الفرنسية) ونكتشف أخيراً أن الجميع فرنسيين وانجليز حاربوا بعضهم البعض وهم يمتطون خيول هيغل إلا أنهم وهم على صهوات تلك الخيول وبينما سيوفهم تلمع وصليلها يصم الآذان كانوا يرددون جميعاً (يالخيول هنغل المنهكة).
<الكتاب: جدل الفكر, إمام عبد الفتاح إمام, دار التنوير, بيروت, .2007