يحاول تسفايج بترجمته , أن يولي اراسموس ما كان يمثل عنده معنى لحياة: وهو العدالة. وهو يعلم(أن الفكر الحر, المستقل, الذي لا يرتبط بعقيدة أو مذهب, ولا يريد أن ينحاز إلى طرف أو حزب) لا يجد مستقراً له ومقاماً في أي مكان على وجه الأرض.
يؤكد تسفايج بأن اراسموس فون روتردام هو المنسي الكبير, حتى اليوم, وفي هذه الأيام ثمة أشياء كثيرة تجعله غالياً وعزيزاً علينا فهو كان من بين كل أولئك الذين يكتبون ويبدعون, في الغرب, الأوروبي الأول, عن وعي وقصد, وكان حب السلام الأول الذي ينزع إلى المشاكسة, وأبلغ المدافعين عن المثال الإنساني الذي ينطوي على محبة العالم ومحبة الفكر, على أن كونه ظل, فوق هذا مهزوماً في كفاحه من أجل صياغة أكثر عدالة وإنصافاً.
لقد أولع اراسموس بالكثير من ا لأمور التي نحبها. بالأدب والفلسفة, بالكتب والأعمال الفنية, وباللغات والشعوب, وأولع بالبشرية كلها, من أجل رسالة التهذيب الأخلاقي الأعلى, من دون تفريق بين هذه الأبواب جميعاً, ولم يكن يكره إلا شيئاً واحداً على الأرض حق الكراهية على أنه الروح المناقض للعقل, ألا وهو التعصب.
فقد كان على يقين أن كل ألوان الصراع تقريباً بين البشر والشعوب يمكن تسويقها من دون عنف, بالملاينة والتساهل المتبادل, لأنها تدخل جميعاً, بلا ريب في باب ما هو إنساني, ويكاد يكون من الممكن الفصل في كل أنواعه نسبياً لولا أن يفرط المحرضون والبالغون في شد قوس الحرب, ومن أجل ذلك كان اراسموس يحارب كل تعصب, سواء أكان ذلك في مضمار الذين, أم في المضمار القومي, أم في مضمار النظرة إلى العالم ومكانة الإنسان فيه بحكم كونه المدمر الفطري, والعدو اللدود, لكل تفاهم. كان يكرههم جميعاً, يكره المعاندين وذوي التفكير الأحادي الجانب, سواء أكانوا في مسوح الكهنة, أم في أردية الأساتذة الجامعيين, ويكره المفكرين ذوي الأفق الضيق والمتحمسين المتعصبين لقومهم, الذين يطالبون في كل مكان بالامتثال الأعمى لرأيهم الخاص, وينظرون إلى كل نظرة مختلفة نظرة الازدراء, على أنها هرطقة أو عقلية منحطة.
كان استقلال المرء بنفسه في التفكير أمراً بدهياً بالقياس إليه. ولم يكن يبتسم من جراء مواقف المتعصبين إلا في ساعات حظ نادرة كل الندرة, وفي أمثال هذه اللحظات التي تتسم بالرفق والحلم, لم يكن التعصب المتسم بضيق الأفق, يبدو له إلا في صورة محدودية للفكر باعثة للأسى, بحكم كونه شكلاً من الأشكال التي لا تحصى التي يتخذها الحمق والغباء الذي صنف ألوانه في كتابه الشهير (في مديح الحماقة) ورسم ملامحها رسماً كاركاتوريا ممتعاً للغاية.
اراسموس المولود في 1466 الذي عاصر أوروبا التي تنتقل من القرن الخامس عشر إلى القرن السادس عشر ليعيش حياة أشبه بمدرسة قاسية, طويلة الأمر, مجهدة, إذ لم يفلت من قبضة الدير إلا وهو في السادسة والعشرين وتتجلى براعة اراسموس بفن الحيلة أنه لا يفلت من قبضة رئيسه بصفته راهباً حانثاً بالقسم, بل يطلب إلحاقه بأسقف كمبراي لكي يصحبه في رحلة إلى إيطاليا, سكرتيراً لاتينياً, وفي السنة ذاتها التي اكتشف فيها كولومبوس أميركا, يكتشف حبيس الدير لنفسه أوروبا, عالمه المستقبلي, وكان من حسن الحظ أن الأسقف يؤجل رحلته وبذلك يتوافر لاراسموس, بطريقة مريحة, الوقت اللازم للاستمتاع بالحياة على طريقته إذ لا يضطر إلى ترتيل أدعية القداس بل يستطيع أن يجلس إلى المائدة الكبرى التي أحسن انتقاء مآكلها, فيتعرف على الأذكياء من البشر, ويقبل بحماسة وشغف على دراسة الكلاسيكيين اللاتين والكلاسيكيين الكنسيين, ويتابع الكتاب, الكتابة في حواره الذي يحمل عنوان (منأوة البربرية) ثم يحصل على منحة دراسية في باريس ليستطيع أن يحصل هناك على درجة الدكتوراه في اللاهوت ويأخذ كيس ا لنقود من سيده ويقصد باريس دونما رجعة وليمشي صوب مستقبله بطريقته الخاصة حيث لاحقاً يقصد إنكلترا برفقة اللورد مونتجوي, حيث يعد تسفايج أن اراسموس يصل في لحظة مواتية إلى العالم الأنجلوسكسوني, حيث ما من أحد يسأله عن ميلاده بصفته طفلاً غير شرعي, ويحصي عليه قداساته وصلواته, ويستمتع بكونه مثقفاً ويتعرف على أكثر الأوساط نبلاً ويتجرع التوهج الفكري, يستغل فترة كرم الضيافة هذه, ليوسع معرفته في كل الاتجاهات, وتتحد ا لظروف لتساعده على التبول السريع ينجم عن الكاهن الضئيل الوجل, المفتقر إلى الطلاقة والرشاقة, نوع الأب الكاثوليكي الذي يرتدي طيلسانه مثلما يرتدي المرء ثوباً لحفلة أو سهرة, ويبدأ اراسموس في العناية بملابسه وهندامه, ويتعلم ركوب الخيل والصيد, ثم أن طراز حياته الارستقراطي الذي يتميز بعد ذلك, في ألمانيا, تميزاً حاداً من الأشكال الأكثر خشونة وغلظة عند كهنة الريف, كان يعود عليه بقدر كبير من مكانته الثقافية السامية, لهذا اراسموس لم يعش أبداً في صفوف الشعوب, وفي داخل البلدان, بل عاش فوقها, في جو أكثر رقة, وأوضح رؤية, في برج الفنان العاجي, برج الأكاديمي, غير أنه كان يطل من هذا البرج الذي شيد, بأكمله من الكتب والعمل,بفضول, لكي يستطيع أن يرى الحياة المفعمة بالروح, رؤية واضحة ومنصفة ويفهمها.
بفضل أعماله واسهاماته في محاربة التعصب وإرساء أخلاقيات التسامح كان يرى أن الفن النادر يتمثل في تخفيف حده الصراعات, عن طريق الفهم المبني على سلامة الطوية, وتجلي ما هو غامض, مختلط مشوش, وحبك ما تمزق من جديد, وإضفاء سياق مشترك, أعلى, جديد على كل ما هو غريب معزول, يمثل الطاقة الحقيقية في عبقريته التي تتحلى بالصبر والحلم, وكان المعاصرون يطلقون على هذه الإرادة التي تعمل عملها من وجوه عديدة أي إرادة التفاهم مطلقاً, اسم (الإراسمية) في تعبير منهم عن الامتنان, وكان هذا الرجل الواحد يريد أن يكسب العالم لصالح هذا (الاراسمي) ولأنه كان يجمع في نفسه ذاتها كل أشكال الإبداع وقوالبه, في أديب وباحث في فقه اللغة التاريخي المقارن, ولاهوتي, وعالم من علماء التربية, كان يرى في مجال العالم بأسره أن الارتباط ممكن حتى بما يبدو في الظاهر ممتنعاً على المصالحة والتوفيق, ولم يبق مجال من المجالات يتعذر الوصول إليه بالنسبة لفنه الذي يقوم بدور الوساطة فبالقياس إلى اراسموس لم يكن يوجد فرق بين يسوع وسقراط, أو بين التعاليم المسيحية وحكمة القدماء وبين التقوى والنزعة الأخلاقية, وكان يتقبل الوثنيين, وهو رجل الدين المكرس في إطار التسامح في مملكة جنة فكره, ويضعهم على صعيد واحد مع آباء الكنيسة.
كان أول المواطنين العالميين, والأوروبي الأول عن وعي وقصد.
الكتاب: انتصار اراسموسي ومأساته.
تأليف: ستيفان تسفايج, ترجمة محمد جديد.
صادر عن وزارة الثقافة سلسلة آفاق 2006 في .239