والملاحظات التي أبداها أوباما اتسمت بتناقض جوهري ، فهو يسعى للدفاع عن عمليات القتل بواسطة طائرات دون طيار، مقراً أساساً بعدم مشروعيتها وعدم مشروعية ما قامت به الحكومة الأميركية خلال العقد الماضي.
وظهرت في الملاحظات التي أبداها أوباما حالة من التوتر العصبي، وذلك بسبب إدراكه التام أن الطبقة الحاكمة التي قامت بذلك لا تفتقد للشرعية فحسب ، إنما لا تجد لها قاعدة جماهيرية أيضاً، فالخطاب البليغ الذي ألقاه قاطعته إحدى النساء مرات عدة لتعرب عن استنكارها لسياسية القتل بطائرات دون طيار من قبل الحكومة، والإبقاء على مركز الاعتقال في غوانتانامو.
الأمر الذي أعطاه أوباما لقتل العولقي يشكل جزءاً من جهد حكومي« لتعميم» برنامج عمليات القتل والاغتيال ، لجعله دستورياً وجزءاً لا يتجزأ من السياسة الأميركية.
لقد أصر أوباما على عمليات القتل التعسفي: بالقول:« الأفعال الأميركية مشروعة» مضيفاً، أننا « في 11 أيلول تعرضنا للهجوم، وفي غضون أسبوع، سمح الكونغرس باستخدام القوة على نطاق واسع، وطبقاً للقانون الداخلي والدولي، فإن الولايات المتحدة في حرب ضد « القاعدة» وطالبان والقوى المرتبطة بها».
يدرك أوباما تماماً أن برنامج القتل والاغتيال يفتقد للدستورية والمشروعية، وباعتباره الرئيس، فهو متهم بارتكاب العديد من الجرائم ما يعرضه إلى إجراءات العزل من منصبه، وبما أنه قلق من أن يتحمل المسؤولية وحده عن هذه الأعمال، فقد ذكر أمام حاضريه مرات عدة أن أعضاء الكونغرس كانوا يعلمون بالأمر أكثر من مرة.
قال أوباما:« بعد تولي مهام منصبي كرئيس» بدأت حكومتي بإعلام لجان الكونغرس الخاصة بكل الضربات الجوية خارج العراق وأفغانستان، واسمحوا لي بالتكرار: ليس الكونغرس من سمح باستخدام القوة فحسب، بل تم إعلامه بكل الضربات التي قامت بها أميركا، كل الضربات بما فيها الحالة الوحيدة التي استهدفنا فيها أنور العولقي، المسؤول عن عمليات القاعدة الخارجية في شبه الجزيرة العربية.
وأضاف« للتذكير، لاأعتقد بأنه سيكون دستورياً أن تستهدف أو أن تقتل الحكومة مواطناً أميركياً- بطائرة دون طيار أو بندقية- دون أن يكون هناك إجراء قانوني سليم، ولن يكون على أي رئيس أميركي واجب نشر مثل هذه الطائرات المسلحة فوق الأراضي الأميركية».
وفي محاولة لربط دفاعه عن عمليات القتل والاغتيال مع الوقائع، اختار أوباما كلماته بعناية، فهو لم يستند إلى « الإجراء الشرعي السليم» كما نص عليه الدستور لأن الحكومة تعتمد على حجة أن « الإجراء الشرعي» يتم تشكيله من خلال المشاورات الداخلية للسلطة التنفيذية، وبين الرئيس ومستشاريه المقربين، ولا يستوجب تدخل قضاة مستقلين.
وفي محاولة لتقديم أكبر غطاء لأفعاله، ألمح أوباما إلى أن الكونغرس يمكن أن ينظر في إعداد آليات لمراقبة قرارات الرئيس ومحاولة إضفاء الشرعية عليها ما يجعل لها مفعولاً رجعياً، وهذا يمكن أن يتضمن« محكمة خاصة لتقدير واجازة الأفعال المميتة» أو « لجنة رقابة مستقلة في السلطة التنفيذية» ولن يكون للاثنتين سوى نظام مصادقة آلي على قرارات الرئيس.
هذه الحجج كانت تتفق وعدد لابأس به من التصريحات عن حالة الديمقراطية الإميركية قال أوباما: من استخدام طائرات من دون طيار إلى احتجاز المشتبه بهم بالإرهاب، والقرارات التي سنتخذها ستحدد شكل الأمة والعالم الذي سنتركه لأبنائنا».
و« عليه فإن أميركا على مفترق طرق، علينا تحديد طبيعة ومساحة هذا الصراع، وإلا فإن هذا الصراع هو من سيحدد لنا مساراتنا، علينا أن نتحلى بروح الحذر والحيطة التي عبر عنها جيمس ما ديسون بالقول ما من أمة يمكنها الحفاظ على حريتها وسط عالم الحروب المتواصلة».
وهنا أقر أوباما بأن أحد المخاطر الخطيرة التي تواجه ما تبقى من ديمقراطية في الولايات المتحدة لا تأتي من القاعدة أو الإرهاب الدولي ولكن من داخل جهاز الدولة الأميركية نفسه، فأفعال الدولة ولاسيما أفعال حكومة أوباما بالذات، قد غيرت المجتمع الأميركي وأعادت طرح امكانية استمرار بقاء أشكال الحكومة الديمقراطية على بساط البحث.
عندما تحدث عن غوانتانامو عاد أوباما إلى نفس الطرح، فبعد تكرار النداء لإغلاق المعتقل، والذي يشمل عرض إقامة قاعدة يمكنها استقبال اللجان العسكرية مباشرة على الأرض الأميركية، وتوقع أوباما أن « التاريخ سيصدر حكماً قاسياً على هذا الجانب من صراعنا ضد الإرهاب وأولئك الذين بين ظهرانينا لم يتمكنوا من وضع حد له. تصوروا مستقبلاً في 10 أو 20 عاماً حيث الولايات المتحدة مازالت تحتجز أناساً لم يكونوا متهمين بأي جريمة على أرض لم تكن جزءاً من بلادهم،
هل هذه هي أميركا؟ أو بالأحرى هل هذه هي أميركا التي نريد أن نتركها لأبنائنا؟!
من خلال الأفعال، الإجابة التي قدمتها حكومة أوباما عن هذه الأسئلة هي : نعم .
إن خطاب أوباما يعبر عن أزمة عميقة للدولة الأميركية، ففي حين أوجد شرخاً عنيفاً وحاسماً مع ديمقراطية الطبقة الحاكمة، فإن وسط قطاع من هذه الطبقة ، ثمة خشية من أن الدولة في كليتها في حالة خطر فقدان أي مشروعية لها في نظر الشعب في الولايات المتحدة والعالم. وهذه الخشية مبررة إلى حد كبير.
بقلم: جوزيف كيشور