هي انتفاضة ضد التنمية , هي معركة الشارع من أجل المدن التي تعود ملكيتها للشعب وليس لرأس المال . إنها المقاومة ضد نظام استبدادي مدعوم من قبل طفرة اقتصادية .
إن ما يجري أمام أعيننا في شوارع اسطنبول هو التقاء بين يسار مناهض للرأسمالية صغير ولكنه ينمو والذي نظم حملات عديدة ذات طابع اجتماعي خلال الأعوام الأخيرة من جهة ومن جهة أخرى جمهور عريض من سكان المدن المسكونين بأفكار كمال اتاتورك حول الحداثة والعلمانية والقومية . وهذا يعني , أن الوضع في تركيا معقد للغاية وينبغي فهم العديد من الأوضاع السياسية المختلفة التي شهدت تطورات في العقد الأخير .
كما يعلم الجميع انطلقت شرارة الاحتجاجات الحالية من خطة تقضي بتطوير حديقة تقع في ساحة تقسيم وسط اسطنبول . وتلك الخطة الرامية إلى تطوير حديقة جيزي ليست سوى جزء من مشروع كبير يقضي بتحديث المدن كافة. وتتضمن خططاً لتحسين أفقر أحياء المدينة , مثل حي تارلاباسي وبناء جسر ثالث يربط بين جزئي اسطنبول ومشروع ضخم لفتح قناة ثالثة تربط البحر الأسود مع بحر مرمرة لتسهيل مرور سفن الحاويات , وكان يطلق على هذه الخطة ( مشروع جنون ) اردوغان . ولميدان تقسيم الذي ينتظره العديد من المشاريع الحضرية تقاليده العريقة في الاحتجاج والتمرد . ولوضع الأحداث في سياقها لا بد من دراسة أهميته كنقطة تمرد وتقارب .
في الأول من أيار عام 1977 توافد نصف مليون عامل وثوري إلى ساحة تقسيم لتشهد الساحة أحد أكثر المظاهرات الملحمية. واستمرت هذه المظاهرة ستة أعوام في أعقاب الانقلاب الدموي , وخلالها حكمت محكمة عسكرية بالموت شنقاً على ثلاثة طلاب بتهمة العداء للدولة . وتم تخليد ذكراهم من قبل اليسار التركي الذي كان شهد حراكاً خلال أعوام السبعينات في المكان الذي تم تنفيذ الحكم ضدهم . وخلال هذا العام من المظاهرات قتل 34 شخصاً في الساحة , بعضهم قُتل على يد من يعتقد أنهم ميليشيات كانت تتخذ من الأسطح مكاناً لها والبعض الآخر تم قتلهم بسبب حالة الذعر التي أعقبت ذلك .
وبالتالي فإن ساحة تقسيم تحمل بالإضافة إلى أنها البوابة للدخول إلى بييغلو , وهو الجزء الثقافي الأكثر حيوية في اسطنبول , إلى جانب العديد من البارات والمقاهي ذكرى مأساوية وخاصة منذ مجزرة عام 1977 .
ومع مطلع أيار من كل عام , وعلى مدى السبع سنوات الأخيرة , تركزت مساعي الاحتجاجات في السعي للوصول إلى تلك الساحة . وجرت الاشتباكات الأولى في عام 2007 , عندما منعت الدولة اليسار التركي من الاحتفال بالذكرى الثلاثين للمجزرة ورد عليها اليسار المتطرف في الشوارع بزجاجات المولوتوف والحجارة . وظل الوضع على حاله لغاية عام 2011 , حينما اعترفت الحكومة أخيراً بخطئها وسمحت لليسار بالوصول إلى الساحة في ذلك اليوم .
إلا أن الأمور تطورت منذ عامين , حيث قررت حكومة العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب اردوغان إدخال خطة تهدف إلى إجراء تجديدات حضرية لمدينة اسطنبول تتضمن إعادة النظر بالساحة , بحجة تحويل الساحة إلى منطقة للمشاة , وتبنت حكومة اردوغان الخطة دون عرضها على السكان من أجل إزالة أجزاء واسعة من الساحة وبناء مكانها مراكز تجارية متعددة ومشاريع أخرى للأثرياء . وبالتالي انتهت المعركة من أجل وصول مظاهرات الأول من أيار إلى ساحة تقسيم حتى هذا العام , حيث قررت الحكومة استخدام ذريعة تجديد المكان لمنع المظاهرات من أخذ مواقعها .
وتعتبر حديقة جيزي النقطة المحورية في التمرد . حيث يخطط إزالتها من أجل بناء مبنى يحاكي الثكنة العسكرية في العهد العثماني الأول , والتي سوف يتم استخدامها لأغراض تجارية . وليست من قبيل الصدفة بالنسبة لحكومة حزب العدالة والتنمية وجذوره الإسلامية , إن كانت تلك الثكنات مقراً أصلاً لثورة إسلامية كبيرة عام 1909 , ويضاف إلى ذلك قرار الحكومة بإطلاق اسم السلطان سليم على الجسر الثالث المقرر إنشاؤه , والسلطان سليم مشهور بمذابحه بحق طوائف إسلامية معينة في الأناضول .
وقد انضم إلى المدافعين عن حديقة جيزي إلى جانب الاتحادات النقابية الكبرى أعداد كبيرة تنتمي نسبياً إلى يسار جديد مستقل , إلى جانب أجيال بدماء شابة ذوي ميول بيئية معادية للاستبداد تركز على نشاطات من نوع ( حق المدينة ) وجميعهم التقوا تحت راية المنصة ( التضامن مع تقسيم ) حيث حصان المعركة الأساسي هي منع تحويل المدينة إلى أرضية لعب رأسمالي أكثر وحشية . ولم تكن تلك حملتهم الأولى ضد التجديد الحضري للمدينة . حيث اندلع منذ عامين مواجهات بين السينمائيين والشرطة التي استخدمت الغاز ومدافع المياه . وكان السينمائيون يسعون إلى إنقاذ سينما ( ايميك ) التركية الشهيرة , والتي كان مقرراً لها أن تصبح هي الأخرى مركزاً تجارياً .
ولا بد من الإشارة إلى أن بعض من المشاركين في المعركة من أجل حديقة جيزي كانوا أيضاً خلف مظاهرات التضامن التي قامت من أجل المهاجرين ومن أجل إجراءات مثل تقديم وجبات طعام لهم وتنظيم مظاهرات أمام مراكز اعتقالهم في اسطنبول .
ولم تتعاظم معركة إنقاذ حديقة جيزي وتصل إلى وعي الجمهور التركي إلا بعد أن قامت الشرطة التركية بقمعها ليومين متتالين في 29 و30 أيار , بحيث كانت طريقتهم الوحشية والمهينة الشرارة التي أشعلت البلاد كلها وتحولت المعركة إلى تمرد وطني ضد الحكومة .
النيوليبرالية الإسلامية
لا يمكن النظر إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم إلا في ضوء المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط الذي يشهد جملة تغيرات . حيث تمتد له جذور قوية في الإسلام السياسي ويحافظ على تقاليد أحزاب سياسية أخرى يعود تاريخها إلى أعوام التسعينات التي كانت هدفاً لقمع الجيش , حتى حينما كانت في السلطة . واردوغان نفسه حكم عليه بالسجن بتهمة التحريض العلني على « الفتنة الإسلامية » والتطلعات المعلنة لاردوغان وأطره يطمح إلى إحياء ( المشروع العثماني الجديد ) الرامي إلى جعل تركيا أعظم قوة اقتصادية وسياسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا . ويأتي الانقلاب السياسي لاردوغان في سورية وليبيا ضمن سياق هذه التطلعات .
وعلى عكس دول الاتحاد الأوروبي والدول الغربية بشكل عام شهدت تركيا خلال الأعوام الأخيرة طفرة اقتصادية كبرى ( بلغت نسبة النمو السنوي 10% ) وعلى الرغم من ارتفاع نسبة العجز التجاري ومعدل بطالة وبيع القطاع العام وخصخصته , إلا أنه تم امتصاص تلك الأزمة ومضت الحكومة التركية في مخططها هذا . وهذا ما يجعل من ثورة اسطنبول ثورة لها خصوصيتها . إنها ثورة ضد نمو الطفرة الاقتصادية , ضد المشاريع التخريبية باسم التحديث الحضري والحداثة المفرطة للمدن . إن ثورة اسطنبول تبرز القطب المعارض في الكفاح الدائم ضد الرأسمالية وامتداد للمعارك ضد سياسات التقشف التي شهدتها الأعوام الأخيرة .
وضمن هذا السياق شكلت تركيا الهدف الأولي لإعادة الهيكلة النيوليبرالية خلال أعوام الثمانينات , حيث سهل خلال تلك الأعوام رئيس الوزراء حينها تورغوت اوزال أعمال الخصخصة الضخمة في المصانع والمناجم وبشكل عام في جميع البنى التحتية للبلاد . ونجحت حكومة حزب العدالة والتنمية واردوغان بشكل خاص بإدخال هذه النيوليبرالية في القرن الواحد والعشرين مستفيداً من قاعدة شعبية إسلامية . علاوة على ذلك , نجح على صعيد السوق العالمي في تعزيز مؤسسات لها أساسات إسلامية بصفة قوى نيوليبرالية . وهذا نلاحظه في شمال العراق , حيث المصادر الرئيسية لرؤوس الأموال هي في الواقع تركية . وعلينا التذكير أن النموذج التركي تم تسويقه من قبل القوى الغربية بصفة مخرج معقول لثورات ( الربيع العربي ) ولكن وبفضل المعارك التي تدور في شوارع تركيا خلال الأيام الأخيرة تُرسم علامة استفهام جدية حول هذا النموذج النيوليبرالية الإسلامي .
اردوغان والحرب ضد الأكراد
ولم تتأثر تطلعات وأهداف اردوغان بتلك الاحتجاجات مطلقاً . وكانت هناك أخطار عديدة متربصة بنظامه , وخاصة من جانب ضباط الجيش الكبار وطبقة المثقفين الذين يعتبرون المدافعون عن تركيا كدولة قومية علمانية . وقد أرسلوا إلى اردوغان العديد من علامات التحذير خلال الأعوام الأخيرة . أما رد الفعل المضاد لاردوغان كان في شن عمليات أمنية في العديد من المدن ضد المئات من الضباط والمثقفين وشخصيات عامة بارزة بذريعة تحضيرهم لانقلاب . وانتهت تلك العمليات على قضايا جنائية عُرفت باسم قضية ارجينيكون والتي لا زالت قائمة لغاية الآن . ومن الضروري أن تترك هذه الاعتقالات وتلك الاجراءات القضائية أثاراً لها. وقد نتج أمور لا سابق لها لدى تلك الأمة التي شهدت انقلابات عسكرية متتالية , حيث تقاطعت حملة الاعتقالات ومحاكمة كبار الضباط وشخصيات أخرى مع مسيرات ومظاهرات عمت تركيا في حين تزامن وجود الحشود الضخمة المدافعة عن حراس العلمانية القدماء مع صعود نجم حزب العدالة والتنمية . وتفسر لنا حملة هذه الاعتقالات سبب عدم تدخل الجيش التركي في الأحداث الجارية حالياً , والذي يعتبر تقليدياً الفاعل الأساسي في السياسة التركية .
ويأتي بروز الشعور القومي التركي في الأحداث الحالية كنتيجة مباشرة للأحداث التي شهدتها تركيا في غضون الأعوام الأخيرة . وكانت أحزاب يسار الوسط القومية قد نظمت ( تجمعات من أجل الجمهورية ) ضد حكومة العدالة والتنمية الحالية . وفي تلك الأحداث الحالية بشكل أدق ,نشهد على انتهازية هذه القوى السياسية التي تحاول التأثير, من مسافة بعيدة على ما يبدو أنها انتفاضة شعبية حقيقية .
وأي كانت التحليلات التي تتناول التحركات التركية الحالية ينبغي الأخذ بعين الاعتبار العلاقة مع حركة التحرر الكردية . وكانت نقطة الارتكاز الرئيسية للسياسات التركية في غضون الأعوام الأخيرة هي موضوع الأكراد للحصول على مطلب الاستقلال الذاتي الذي أطلقه حزب العمال الكردستاني في عام 1978 . وفي غضون الأشهر القليلة المنصرمة أجرى رئيس الحكومة التركية مفاوضات على اتفاق سلام مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان المسجون في جزيرة منذ عام 1999 . ويسعى اردوغان من وراء ذلك لفرض نفسه كزعيم وجد حلاً للمشكلة الأكثر إلحاحاً في البلاد . وهذه لم تمنحه اليد الطولى في السياسات التركية فحسب ( حيث قمع نظامه بوحشية واعتقل العديد من الشخصيات اليسارية وشخصيات من المعارضة في الأعوام الأخيرة ) وإنما قاده هذا إلى تقديم نفسه كصانع سلام بين قوميتين . وأصبح التقارب بين جزء من اليسار التركي والحركة الكردية هشاً للغاية بسبب اتفاقهم مع اردوغان . والسؤال المطروح الآن هو عن دور مسيرة السلام في الأهداف العثمانية الجديدة .
وحتماً تلك هي أحد القضايا الأساسية حالياً : كيف يمكن أن تتجمد الحركة في الشارع وأي علاقة ستربطها مع النضال الكردي ؟ الغالبية العظمى من المتظاهرين الذين ثاروا في حديقة جيزي ضد خطط تجديد اسطنبول يتضامنون مع الشعب الكردي . ولكن الجماهير التي نزلت إلى الشوارع تحمل الأعلام التركية تنتقد اردوغان لأنه يحاول استخدام مسيرة السلام لتعزيز قبضته أكثر . ورغم الأخطار تعتبر التطورات الأخيرة في الشارع واعدة . ويؤكد البعض أنهم رؤوا في التظاهرات الأعلام التركية إلى جانب صور أوجلان , والأغاني التي تؤكد على الأخوة بين مختلف المجموعات العرقية وأخرى تؤكد على الهوية القومية التركية .
كما ولعبت السياسة الاجتماعية لاردوغان دوراً في الحركة الثورية ضده , والتي تصب في خانة زيادة أسلمة البلاد . والرقابة الصارمة على الانترنيت والاتصالات وتضخيم العطل الإسلامية برعاية الدولة . وهناك الأسلوب الشخصي لاردوغان كرئيس وزراء الذي كان عاملاً رئيسياً في احتدام الغضب في الشارع . ففي خطاباته جميعها تقريباً , سواء لدى تجمعات سياسية او في مقابلاته المتلفزة , فهو يهاجم ويهدد وتصريحاته الأخيرة خلال تلك الأحداث كانت نموذج عن ذلك وقد صبت الزيت على النار , حين وصف هؤلاء الذين نزلوا إلى الشارع بأنهم ( حفنة من الرعاع والمتطرفين )
كما ولا بد من إبراز العلاقة الوطيدة بين السياسة الثقافية المحافظة لحزب العدالة والتنمية وسياسته الاقتصادية الليبرالية الجديدة . فقد اقتنعت الطبقة الوسطى من جمهور كمال اتاتورك , الذين شاركوا في الثورة الحالية أنه لا يمكنهم إبعاد الثقافة المحافظة دون مواجهة السياسة الاقتصادية . وفي حال نجحوا يمكن أن ينضم إليهم الفقراء المؤيدون لحزب العدالة والتنمية على قاعدته الثقافية .
بقلم علي بكتاس