وما سر تخبط قنوات الفتنة والتضليل وارتباك مقدمي برامج تلك القنوات عندما أخذت أخبار القصير تتصدر اهتمام جميع وسائل الإعلام؟ ولماذا ارتفعت أصوات أوباما وبان كي مون وغيرهما من المسؤولين الأوربيين ومن يدور في ذاك الفلك المأفون للتجاوب مع استغاثات عصابات القتل والإجرام وهم يسحقون تحت أقدام حماة الديار؟ وما الجدوى التي جناها ممثلو أولئك القتلة المتباكون على حماية المدنيين مع علمهم المسبق بكذب ما يروجونه جملة وتفصيلاً؟ وكيف يمكن فهم التزامن بين الانتصار المدوي في القصير وبين التصعيد الهستيري في القنيطرة، ونقل مصابي العصابات الإرهابية المسلحة للعلاج داخل الكيان الصهيوني؟ وهل ما بعد الانتصار في القصير كما قبله؟ أم أن نتائج الميدان تفرض حضورها الفاعل على بقية الجوانب السياسية والدبلوماسية والعسكرية إقليمياً ودولياً؟
إن دلالات ما حدث في معركة القصير تتجاوز النصر العسكري في معركة تقليدية على مسرح العمليات وإن امتدت جغرافيته، فالحديث هنا عن حرب شبه كونية، وهذا كفيل بتحويل نتائج المعارك التكتيكية إلى إنجازات نوعية ترقى إلى المستوى الاستراتيجي الذي يمكن البناء عليه، وبخاصة بعد أن تكشفت معالم ما كان مستوراً في القصير وريفها، فميدان المواجهة ليس مجرد جغرافيا طبيعية، بل تحصينات هندسية أعدت بشكل مسبق لتمكين من يقاتل على تلك الجغرافيا من البقاء لأشهر عديدة في حالة اشتباك مباشر مع جيش نظامي، وتكبيده خسائر فادحة في الأرواح والمعدات إنْ أصرَّ على الدخول إلى تلك المنطقة واجتياحها، حيث تنتشر الأنفاق وتتفرع إلى اتجاهات متعددة ولمسافات طويلة تمكِّنُ مَنْ يستخدمها مِنَ الاختباء والتواري عند الحاجة، والظهور في الوقت الذي يريده من أماكن مختلفة تتحول تلقائياً إلى مرام مثالية لأعمال القنص الآمن، ومقرات القيادة والعمليات تنتشر تحت الأرض بأعماق مختلفة تبلغ عشرات الأمتار، وسلاح الإشارة الذي يعد عصب أي معركة يتجاوز بتقنياته وسائط الاتصال السلكي واللاسلكي المعروفة لدى غالبية الجيوش النظامية، وهذا ما يسميه أوباما وجوقته بالأسلحة غير الفتاكة التي تتضمن وسائط اتصال وبثاً فضائياً مباشراً، وقدرة تكنولوجية تمكِّن عصابات القتل والإجرام من ترصد وتعقب جميع التحركات ، فضلاً عن التنصت والتشويش، وحملة السلاح الذين كانوا ينتشرون في القصير لهم خصوصية ذاتية لم تعرفها الحروب التقليدية عبر التاريخ العسكري للحروب والصراعات المسلحة، حيث تم جمع القتلة والمجرمين من أصحاب الخبرة في الإرهاب وحرب العصابات من شتى أنحاء المعمورة ممن يحملون فكراً تكفيرياً امتهن ثقافة السواطير وتقطيع الأوصال والتمثيل بالجثث وأكل لحم الضحايا من دون أن يرف لهم جفن، أما المدربون والمشرفون على جرائم أولئك القتلة فهم نخبة الفكر العسكري والاستخباراتي المتخصص بالإرهاب العالمي العابر للقارات، والأسلحة المستخدمة تشمل جميع أنواع السلاح المعروف بأشكاله المختلفة الخفيف والمتوسط والثقيل والصواريخ الحرارية المتنوعة ومضادات الدروع والطيران وغيرها كثير ، وهي متعددة المنشأ وبلدان التصنيع، فمنها الإسرائيلي والأمريكي والأوربي والتركي، وجميعها تم شراؤه بعائدات الغاز والنفط الخليجي المرفق بكل حاجيات المرتزقة بما في ذلك متطلبات ولوازم جهاد النكاح، وتخصيص إمبراطوريات إعلامية لتسويق جرائم العصابات الإرهابية على أنه أعمال بطولية، فأي عمالقة أولئك الذين قهروا ذلك كله وحققوا إنجازات ميدانية إعجازية تجلت بالقدرة الفائقة على اختراق المواقع التي كان يسيطر عليها أولئك القتلة وعلى أكثر من اتجاه رغم الكميات الكبيرة من الألغام والعبوات الناسفة والمتفجرات التي زرعت في كل أنحاء القصير وريفها؟ وكيف استطاع حماة الديار تفتيت الجماعات الإرهابية المسلحة التي تهاوت بين قتيل ومصاب وفارٍّ ومستسلم أو مقبوض عليه بسرعة خيالية لم تكن تخطر على ذهن أكثر الناس تفاؤلاً وثقة بالقدرة على صنع النصر؟
لعل أغرب ما أفرزه الانتصار في القصير استمرار متزعمي تلك الميلشيات الصهيونية بالمكابرة ونكران حقيقة ما أصبح واقعاً غير قابل للتبديل، ومحاولة من يرتدون الزي السياسي وينصبون أنفسهم متحدثين باسم العصابات المنهارة في القصير وغيرها أن يصوروا الأمر على أنه خسارة جولة لا أكثر، في الوقت الذي تؤكد فيه وقائع الميدان انتقال عدوى الانهيار الشامل إلى جميع مكونات الجسد الإرهابي على امتداد الجغرافيا السورية بعامة، وفي المنطقة الوسطى والقصير بخاصة، وهذا ما تجلى بوضوح في إعادة السيطرة على قرى متعددة في ريف القصير كالضبعة والصالحية والمسعودية في غضون ساعات قليلة، وما التصعيد المتعمد في القنيطرة واستماتة عبيد «اسرائيل» وأجرائها للسيطرة على المعبر بالتنسيق مع جيش الكيان الصهيوني يوم إعلان الانتصار في القصير إلا محاولة يائسة للتعتيم على عظمة الإنجاز وتحويل الأنظار عما تم تحقيقه، فضلاً عن كونه محاولة مفضوحة وفاشلة لخلط الأوراق والتهويل بتداعيات توسيع دائرة اللهب والمواجهة، لكن سرعة الرد السوري الحاسم واستعادة السيطرة على المعبر وملاحقة فلول أزلام «إسرائيل» أفقد تل أبيب وصبيانها القدرة على المناورة وإخفاء الحقيقة، وهذا ما دفع جيش الاحتلال لفتح ممر خاص لسحب جرحى العصابات الإرهابية المسلحة ونقلهم للعلاج داخل المشافي الصهيونية .
باختصار شديد يمكن القول إن الانتصار في القصير أفرز عدداً من النتائج والتداعيات على المستويين التكتيكي والاستراتيجي، حيث تم التأكد من قصم ظهر الجسد الإرهابي العامل في الداخل السوري، لأن القصير كانت الخزان الذي تصب فيه وتتفرع منه معظم الأوردة والشرايين التي تغذي ذاك الجسد على امتداد الجغرافيا السورية وليس فقط في المنطقة الوسطى، وهذا ما سرَّع أكثر في القضاء على ما تبقى من آمال لدى أصحاب مشروع أخونة المنطقة، وبخاصة في ظل التزامن بين ازدياد حدة الاحتجاجات الشعبية في تركيا وبين القضاء على معاقل العصابات المسلحة في القصير وريفها، ولعل هذا أحد نتائج الاصطفافات الجيوبوليتيكية الجديدة التي تبلورت على الساحة الدولية بفضل صمود سورية ما يزيد على العامين في مواجهة حرب شبه كونية، ولاشك أن إعادة اصطفاف القوى العالمية النافذة سيترك آثاره المباشرة والحاسمة على جميع القضايا في هذه المنطقة الجيو استراتيجية من العالم ، ووفق الموازين الجديدة للقوى القادرة على التحكم بالقرار الدولي.
إن سرعة إنجاز الانتصار في القصير يؤكد جدوى ونجاعة نهج المقاومة وازدياد حضوره وفاعليته على الساحتين الإقليمية والدولية، وهذا يعني تلقائياً انحسار وانكماش دور قوى التآمر والخيانة التي لن تجد واشنطن حرجاً في تركها على قارعة الطريق بعد أن استنفدت تنفيذ الدور المشبوه الذي أوكل لها عبر عقود، ومن حق سورية ومن يقف معها البناء على ما أنجز ومراكمة الانتصارات الكفيلة بتبريد الرؤوس الساخنة، وإرغام أصحاب الأحلام المطاطة للاستيقاظ على دوي الانتصار وتبدد أوهام أطراف العدوان على سورية قادة ومرؤوسين وأدوات تنفيذية مأجورة.