تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


وطنٌ لا يموت

ملحق ثقافي
11-6-2013
ثناء محمد :يبدو أن الكاتب البريطاني يرى أن الإنسان مخلوق مسيَّر. لكنني أرفض هذا التسيير القسري على الأقل فيما يخص الكتابة،

لأن الكتابة حرية ولا يدرك معناها إلا الذين يمتلكون ذاكرة من ورق.‏

الكتابة كرسي ليس في الدرجة الأولى على مسرح الحياة. هي تحليق في الفضاء بثياب لا شرقية ولا غربية، تنزلق تفاصيلها على مصابيح النور والحنين والتمرد.‏

فماذا لو كتبنا أنفسنا كما خلقها الله في البدء، حيث العماء والماء، واللون لم يعرف التشكيل النهائي؟ ترى كيف سيكون شكل الأسئلة؟ تلك الأسئلة التي تشبه الضوء لا تعرف الحدود.‏

ماذا لو رسمنا الوطن كما تستحضره ذاكرة المستقبل؟ بلا تنبؤات ولا استشراقات متوضعة من مجاميع قارئي الأكف والفناجين؟‏

نكتب الوطن بحبر الحناء كي يكون شعره عاشقاً محباً للحياة.. وطن لا يموت كل يوم عشرات المرات.‏

نُخرج الوطن من بطون الأوهام إلى نوافذ الأحلام، نشاطره رغيف التنور ونضيع في ثلجه الأبيض بين الجنون والشوق وبذور الماء.‏

لا يمكن أن نكتب عن الوطن ونحن في حالة استقلال تام عن القلب أو بانفصال عن الوجدان، لأن الوطن يفجر عواطف الحروف ويذيب الحبر على أجفان الورود عبيراً ملوناً لا ينطفئ. وهذا الأيام يخترقنا هذا الشوق الوطني ككومة من النور بحبل الروح إلى زلازل وهزات ومراع وحنين. يأخذنا إلى المراثي ومسيل الدموع حيث تسرع الليالي العتيقة أقلامها على صفحة الماء الطهور لتكتب الريح قلقها ونشوتها ومزاجها.‏

أعود إلى الكرسي الكئيب. أقطف الأملاح من فوق جبين الليل. فالنهار وإن ولى وغار في بطن العدم، مسافراً في أرحام الغيب بلا رجعة كرزمة من العيدان التي تحترق بثوانيها.. كما الكتابة التي تسعى إلى حتفها الرحيم. كلما ثار غبار العقل، أجدني أتحسس دبيب النور على وطن الحرير والعاج. أكتب ما تبقى من حزن هذا الكرسي الهزاز. والليل رسالة أودعها في المظروف السري.. أرسله إليك يا وطني. لنتذكر كم ركضنا فوق المبالغات وكم كتبنا الخطا على زمن نام طويلاً.‏

ترى هل حفظ التراب الدرس جيداً؟‏

هل تعلم أن يقرأ الوجوه التي تتماوج بين الليل والنهار؟‏

أجلس على الكرسي المهجور وحدي وأردد الأدعية التي تكثر الرزق، كرجل ريفي طاعن منذ سنين لم يمر بنا الشتاء اللذيذ، ولا صوت المزاريب تعزف ألحان الماء وقصائد المطر. ربما سوء الحظ لم يخدم الغمام لتعبرنا كما كانت أيام الطفولة.‏

حينما أكتب لا أهيئ للكلمات الغرف المؤنثة بالنور ولا أعرف كيف أحجز لها الأجنحة الفندقية الفاخرة، فأنا عاشقة فاشلة في مقاعد الرفاهية، ودائماً تأخذني المفردات للمساحات الواسعة الرحبة لأخترق اشعة الشمس بطريقة فيها الكثير من الغرابة والتصعلك.‏

أنا جزء من حفلة إقصاء تاريخية تمتد حتى فاطمة الملك الضليل.‏

يعشقني الرجل في صومعتي البوهيمية تحفة على رفوف التفاخر الذكوري الشرقي.‏

قررت أن أكتب عن الأشياء المهملة في المخيلة العربية تلك المخيلة التي تدوخ وتسكر وهي تمتص الخمرة من أكياس النايلون بحثاً عن معنى لعدمية الحياة. فالكتابة شاهد عيان على نزف الروح، والكتابة تهذب الخيال وتمتطي السحب كمحارة طالعة من بحر العمر على إيقاعات غريبة.‏

يوماً ما سنرحل بعيداً عن كل الأشياء التي ألفناها، نخرج من ثقوب اللاعودة المعتمة إلى ما وراء الغموض المحاصر بالأسئلة اللامنتهية.‏

أجلس على الكرسي الحزين بلا أوراق ولا جرائد تأكل ذات الأفكار منذ أن جثمت الأخبار على قلبي أحدق في مرآة الماضي فتميع الذكريات وتنثال على حواف كأس الضوء كمقام النهاوند. تطربني تلك التقاسيم التي تتعاطف معي كلما تحولت إلى حفنة أوراق ممزقة تتمرد على المألوف والمعتاد.‏

أنا أنتمي إلى الماضي بكل حواسي.. صنعت لي ذاكرة من ورق حينما سرق لصوص الليل ذاكرتي.‏

يقول سومرست موم: إن حياة الإنسان أشبه بقاطرة موضوعة على سكة حديد، يسير حيثما تسير ويستدير حيثما تستدير، ويقف عندما تنتهي السكة.‏

كل الدروب تقودني إليك، أيها الحارث في حقول لم يسبقك إليها أحد من قبل. حتى شرفتي تشتاق لمرور عطرك على وريقات الريحان والقناديل تحتاجك لكي تمسد نورها الخجول بأناملك الطويلة كقامة الغيم.‏

يوم آخر وأنا أرتدي أجمل ملابسي وأعدو إلى بوابة الحياة كعصفورة وردية تتسلق اللقاء لتدخل ملكوت الحب. أهرب من أذرع الشوارع وعيون العسس الصغار التي تطاردني وتريدني أن أموت بلا طعم. أعرف أن الهروب من الظل مسألة معقدة في ظل انعدام الحيل العتيقة. تلك الحيل التي تهرسنا وتسجل الذاكرة البيوت المهدومة على نورها المنسي. كلما مررت أعيد تدريب رئتي على احتواء الهواء بطريقة مجنونة، كي أجري إليك بملء الصحو وملء الزبد.‏

أوقظ المطر الهرم كي يغسل الأقحوان والبنفسج النائم فوق راحتي منذ أن تعمد قلبي بهديل السماء، أعود طفلة يتراقص القنديل في صدرها وينوس حد الارتواء.‏

أرضي شظايا من رسائلي إليك فوق الطريق كي تستدل العصافير علينا ونحن نركض وحيدين على أشواك الحقول.‏

ما زلت أذكركم من الرسائل التي كتبتها وخبأتها تحت الوسادة. ونمت لأحلم بأن عيونك تزورها لتهبها الخصب والضوء ذهاباً وإياباً طوال الليل.‏

أشعر أنك تنتحب على حضن الرسالة كطفل داهمته الدهشة حيثما أبعدوه عن ثدي أمه. ترى هل ما زالت رسائلي إليك تشبه السنونوة الكونية التي تهاجر خلف عشقها الأول.. وحنين روحها بسابقة القلب؟‏

إذا التقينا في يوم شتوي ماطر لا تسألني كيف تعلمت أن أعشقك. أترك السؤال في قاع الروح وعلى وجنتي حبة المطر، علني أتعلم النسيان ولا أعاود الكتابة كي لا أتوه عن أوقات الرحيل أو اللقاء. فأنا أنثى لا تتنهد إلا ضجراً وتحيا في عالم متردد خجول. عالم لا يعرف معنى كيف يكون الحب مبصراً.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية