وأي علاقة يقيمها التهكم الأدبي مع المجتمع البريطاني؟
ولماذا لا يعير هذا الأدب المدارس الأخرى كالرومانسية والوجودية والسريالية أي اهتمام؟
تستبيح السخرية المجتمع والأدب البريطاني على حد سواء، حتى ارتبطت سمعة رواية صاحبة الجلالة بالتهكم. ونتيجة تأثير وتأثر هذه الثقافة بالأدب الساخر، أصبح من المألوف القول إن التهكم يجري في دماء شريحة كبيرة من الروائيين البريطانيين. ولكن ماذا لدى هؤلاء الأدباء سوى تقاليد تعود إلى العصر الفيكتوري وكوابيس إمبراطورية غربت عنها الشمس إلى الأبد.
افتتح هذا الأدب الساخر في رائعته «دار الغرور» حيث سكب الخل والخردل فوق سلطة عادات مجتمع جامد بارد كمناخ جزيرة الضباب، وسار على هديه تشارلز ديكنز وتروبولي وأوسكار وايلد وبرنارد شو، ليغدو الأدب الساخر عرفاً تتوارثه أجيال من الكتاب تعلو أصواتهم على لسان غراهام غرين وبارينز وديفيد لوج وجوناثان كود وإيفيلين وهاوس..
وبين التهكم والسخرية يسجل النقد الروائي في جزيرة الضباب انتشاراً واسعاً مثل أعمال كوو في «وصية إنكليزية» التي تصور فوق صفحاتها الروائي البريطاني عادات وتقاليد المملكة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وخلفيتها الاجتماعية والسياسية المدججة بهجاء لاذع لتلك المرحلة.
وتهاجم كل من «وصية إنكليزية» ورواية «النادي» التي صدرت قبل أيام وترجمت إلى الفرنسية ونشرتها دار غاليمار، سياسة مارغريت تاتشر الاجتماعية حين كانت رئيسة حكومة إنكلترا قبل ثلاثة عقود، حيث تصور أحداثها مجموعة من مصاصي الدماء تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية أو النبلاء كما يطلقون عليها، تمارس هذه المجموعة تجارة الأسلحة وتهريبها إلى بؤر التوتر والمناطق الساخنة في العالم منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. كذلك تعري رواية جوناثان كوو تلك الطائفة التي تحترف تربية المواشي والإتجار باللحوم الفاسدة منها كالبقر المجنون. وهناك مجموعة من السياسيين ورجال الأعمال يتنكرون لحزب العمال أحياناً ولمنافسة حزب المحافظين. كما تبيع هذه المجموعة في مزاداتها شبكة الاتصالات في البلاد بالاشتراك مع أصحاب مصارف سكارى كما تصورهم ريشة كوو بدقة وتهكم يثير الدهشة، حتى بدت صورتهم كاريكاتورية بامتياز، كذلك أسقطت «وصية إنكليزية» أقنعة خصخصة قطاعات اقتصادية استراتيجية في ظل التاتشرية.
كانت السيدة الحديدية قد اعتمدت تلك السياسة إرضاء لذوي النفوذ من سياسيين ومصرفيين لتنال شرف الحصول على لقب ليدي! كذلك تسخر رواية كوو من شخصيات تمتهن الثقافة ولها صلة بعالم الفكر والإبداع كالصحفيين الذين لا علا قة لهم بواقع بريطاني أطاحت الأزمات المالية بالكثير من تقاليده، كما حصل مع عدد من المضاربين ببورصة الأعمال التشكيلية حين تحولت إلى مخزن لتبييض رؤوس الأموال.
وجاءت رائعة جوناثان الأدبية عام 1998 لتفوز بجائزة ميديسيس الأدبية للعام المذكور وعنوانها «بيت النعاس» وهي رواية أقرب إلى السوريالية منها إلى الواقعية تختلط في طياتها الأحلام بالذكريات وسوء الفهم بالنقد اللاذع لمجتمع يخفي الرذيلة تحت معطف فضيلة مصطنعة.
وتكاد روايات جوناثان كوو تصخب بالفضائح والابتزاز كما في «الأقزام» حيث يتابع هذا الأديب تسليط الضوء على مثالب المجتمع البريطاني المدني في رواياته اللاحقة خلال أعوام التسعينيات بأسلوب ساخر، فيتناول قضايا الرقابة على الصحافة المحلية وانعكاسات الصراع الطبقي مع تزايد شعبية اليمين المتطرف، على خلفية تفجيرات الجيش الجمهوري الإيرلندي لمواقع عدة في أرجاء البلاد. وتتسع جغرافية التهكم الفني لهذا الروائي مع تصعيد الرأسماليين لضرباتهم المصرفية وخسارة النقابات العمالية تدريجياً لنفوذها مع معايشة هذا الأديب لطلاب مدرسة الملك ويليام في بيرمنغهام وعمله في مصنع بريتش ليلاند مع ظهور نزعة التمييز العنصري لدى شرائح البريطانيين البيض تجاه الملونين من باكستانيين وهنود وهيمنة النزية الجديدة على أركان ثقافة الريغا والفن التشكيلي ليلقب كوو بجزار السبعينات في الأدب البريطاني.
ولأن التهكم سمة محببة لدى القراء في بريطانيا فقد اعتمدتها أقلام شهيرة في أعمالها الفنية لتظهر الفوارق الطبقية في عشرات الروايات على صعيد اللهجة الواضحة بين حي وآخر وبين نواد خاصة وأخر شعبية منغلقة على المنتسبين إليها، لذلك كانت مثار سخرية الشارع وصحافة صاحبة الجلالة، وكأن تلك الأقلام ترفض الانسلاخ عن إرث «سويفت» وأتباعه أمثال ويليام تاكيراي الذي اختار دائماً الدجالين واللصوص أبطالاً لأعماله، لا بل طبقة النبلاء الإنكليز التي لم تغادر رواياته وكانت أمام منظاره الناقد.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الروائي إيفلين فوغ الذي تفضح أعماله شركات دفن الموتى عبر ضفتي الأطلسي في روايته «الفقيد الغالي» والوسط الإعلامي في روايته «سكوب» مستخدماً أسلوب التعليق الصحفي الساخر لتشريح الجامعات البريطانية وطلابها من شبيبة ضائعة لاهية غارقة في الملذات. أيضاً استخدم غراهام غرين في رواياته التجسسية على غرار «عملينا في الهافانا» هذا الأسلوب من خلال انتهازية عميل سري ينجح في الحصول على ترقية في وظيفته بعد أن يقنع المسؤولين بأنه جاء برسم تصوري لسلاح غربي خطير، في حين أن المخطط المزعوم ليس سوى صورة لآلة تنظيف. ويسخر هذا العميل من سذاجة مديره وزملائه.
كذلك هي روايات إيفي كومبتون بورنيت المليئة بالحوارات وأحاديث تدور خلال مآدب وولائم اعتادت عليها هذه الروائية العاشقة للسخرية والنقد.
أما الروائي نيكولاس موسلي فيضع في رواياته «إجازة إنكليزية» و»بازار غريب» عدة أساتذة في مواجهة، إثر نميمة تناقلها الطلاب تتعلق بتعليمهم.
ومن الأسماء المعروفة في عالم الأدب الساخر في بريطانيا هناك جوليان بارنيس ووليام بويد وإيان ماكيوان صاحب رواية «أمستردام» التي تغوص في خصوصيات مراسلي صحيفة ذائعة الصيت في المملكة المتحدة، حيث المنافسة الشديدة للاستئثار بشرف الفوز بجائزة إعلامية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأديبة آن فاين في روايتها المعروفة «داخل حديقة إنكليزية»، وأنتوني بيرغيس الذي تناقلت الأنباء خبر وفاته فكتب رواية «أوانج ميكانيك» يتهكم من خلالها على العنف الذي يسيطر على حياة الضواحي في بريطانيا العظمى، وقد نقل المخرج كوبريك هذه الرواية إلى الشاشة الفضية وحققت نجاحاً باهراً في دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية واليابان.
وقد يعود سر هذا النجاح إلى أنهم ساروا على خطى الأديب فنسون أديسون وقصته «الحياة الأزلية» وهي من أشهر الروائع الأدبية، كونه يصف فيها الآخرة بكثير من التندر الغريب والنقد المثير الذي لم يستطع أحد مجاراته فيه إلى اليوم، وبقيت فريدة من نوعها على هذا الصعيد، علماً أن فكرتها مقتبسة عن «رسالة الغفران» للمعري، وقد انتحلها كل من دانتي الإيطالي وغوته الألماني، وحتى ميلتون الشاعر الإنكليزي قبل أن يأتي أديسون ويتندر بأسلوب ساخر.