وهي الوجهة الأولى لأي سائح أو ضيف يدخل سورية حيث يقف بتأمل أمام الصناعات الزجاجية والفخارية والخشبية والعاجية والصدفية والحلي والنسيج والبروكار الدمشقي والموزاييك والأرابيسك والقاشاني، ورؤية صناعها المهرة. ومن هذه الثقافة العظيمة جاءت كل محتويات المهرجان السوري الأول للتراث والأعمال اليدوية، الذي أقيم في قصر الثقافة «مكتب عنبر» وانتهت فعالياته 3 حزيران الجاري، بمشاركة اتحادات وجمعيات وفعاليات شعبية وأهلية وحرفية تعنى بهذا الشأن، وشمل أعمالاً يدوية تراثية وتقليدية منها الموزاييك الخشبي الدمشقي مع تنزيل الصدف والرسم النباتي على الخشب والقاشاني والرسم على الزجاج وصناعته والفسيفساء من حصى البحر والنحاسيات والفوانيس الدمشقية والثريات الشرقية والقعدات الشامية وبعض الأدوات المنزلية التراثية إضافة إلى المنسوجات والبروكار الدمشقي والمنمنمات اليدوية والإكسسوارات والحدادة.
المكان التاريخي الجميل
جاء اختيار المعنيين المكان الذي أقاموا فيه هذه الفعالية اختياراً موفقاً، لأنه أيضاً جزء من تاريخ مدينة دمشق، حيث يعتبر مكتب عنبر صرحاً حضارياً هاماً، ومركزاً تعليمياً رائداً كان له الأثر الأكبر في النهضة العلمية والثقافية في عهود مظلمة من الاستعمار العثماني والفرنسي. وبعد ترميمه من قبل محافظة دمشق أصبح مقراً للجنة حماية مدينة دمشق القديمة، ومركزاً لاستقبال الوفود الرسمية، وإقامة المهرجانات، والندوات الفكرية والتاريخية، والاحتفالات الرسمية.
وتاريخياً كان مكتب عنبر هو الثانوية الوحيدة في دمشق عام 1900، وقد خرَّج ألوف الطلبة منها شخصيات أصبح لها شأن فيما بعد في حياة سورية الحديثة.
ذاكرة تراثنا الحضاري
تقول الدكتورة لبانة مشوح وزيرة الثقافة عن هذه الفعالية: «هذا المهرجان يشكل مناسبة للاحتفاء بمهارة حرفيينا الذين اختزلوا بأعمالهم على مر العصور جمال بيئتنا وتناسق ألوانها وتآلف عناصرها فعكسوا تنوع ثقافتنا ورقيها إلى جانب التذكير بتراثنا الحضاري والتاريخي الذي نعتز به وخصوصية منتجاتنا اليدوية التي أبهرت العالم بدقة صناعتها فاكتسبت سمعة عالمية، وينبغي أن نحافظ على هذه المنتجات وتعزيزها وتطويرها والترويج لها وإحياء ما اندثر منها ونقل الشغف بها وامتلاك مهارات صنعها إلى الأجيال القادمة، لأن التمسك بالتراث بشقيه المادي واللامادي هو تمسك بالهوية وتعزيز للانتماء وإن تشجيع الصناعات اليدوية التراثية والترويج لها وتطويرها هو ترسيخ لعراقة تراثنا وتعزيز لتنوعه ودعم للمنتج السوري ولسمعته العالمية وتمكين للمنتجين من توسيع دائرة عملهم بما يولد فرص عمل للشباب المؤهل والمدرب الراغب في الدفاع عن تراثه والحفاظ عليه من الاندثار والارتقاء به نحو الأفضل».
التحف الجميلة
أخذت النحاسيات حيزاً لا بأس به في المهرجان، هذه المهنة التي اشتهرت بها المدن السورية ومنها دمشق، واستخدمت في تصنيع مستلزمات المطبخ العربي من صوان وصحون وقدور وكؤوس..، كلها مصنوعة من مادة النحاس التي تفنن فيها أصحاب هذه المهنة في طريقة صناعتها بنماذجها متعددة التي نقشت عليها أجمل الرسوم. ومن الأساليب التي يعتمدها صناع النحاسيات في سورية تطعيم الأواني النحاسية بالذهب أو بالفضة أو طلاؤها بمادة لامعة اسمها الميناء لتدوم تحفة جميلة مهما مر عليها الزمن، ومن تلك القطع نذكر قربة عرقسوس وطاسات وصناديق ومزهريات وزبادي وكؤوس فضلاً عن أباريق أجاصية الشكل مع صحون رسم عليها أشخاص أو حيوانات أو كتابات، ومعظمها تعود إلى العهدين المملوكي والعثماني.
يقول الدكتور هنائي داوود مدير عام إدارة المهرجانات الدولية «الجهة المنظمة للمهرجان»: «إن الغاية من المهرجان هو التعريف بالتراث والثقافة السورية بصورة صحيحة ولمّ شمل الأسرة ضمن مهرجانات مخصصة لها»، مشيراً إلى دور هذه المهرجانات في التعريف بالتراث اليدوي السوري الأصيل وتشجيع الحرفيين على الاستمرار في ممارسة مهنهم اليدوية.
من أفران الطين والآجر
صناعة الزجاج اليدوي من أبرز الصناعات القديمة في سورية وقد برع الفنانون الشعبيون في صناعة الزجاج اليدوي عن طريق أفران الطين والآجر، ورسموا على الكؤوس والصحون والمصابيح والأواني الملونة صور أبطال الملاحم والسير الشعبية مثل عنترة بن شداد والزير سالم وغيرهما، منذ القرن الرابع عشر والخامس عشر وحتى يومنا هذا. وتتميز هذه الصناعة بالدقة والبراعة في التلوين أو التزجيج، بالإضافة إلى تنوع أشكالها وجمال زخرفتها، وتعدد ألوانها، ومن أشهر أنواع الخزفيات ما هو معروف باسم الخزف المحلي بالزخارف ذات البريق المعدني. وقد اشتهرت مدينة الرقة بوصفها مركزاً هاماً لهذه الصناعة وخصوصاً في مدينة الرصافة الواقعة في الصحراء على مقربة من الرقة، حيث وصلت صناعة الخزف في هذه المدينة إلى مرحلة من التطور والازدهار ولا سيما في القرنين الثامن والتاسع الميلادي.
تقول السيدة فاتن عفوف ياسين مديرة المهرجان: “إن دافع إقامة هذا المهرجان هو إحياء التراث الذي يشكل ثروة حضارية فريدة إضافة إلى إبراز تاريخ سورية المشرق وإقامة هذه الفعالية تأكيد على أن جميع أبناء الشعب السوري واعون ومدركون لحجم ما يتعرض له تراثنا من محاولات طمس وتشويه على أيدي مجموعات متمرسة على ذلك، وإننا سنبذل قصارى جهدنا في ردعهم عن تلك الممارسات، كما أن لهذا المهرجان أهمية خاصة كونه يقام في ظروف خاصة تمر بها البلاد حيث يرتكب الأعداء المتربصون بها أبشع الجرائم بحق البشر والحجر إلى جانب استهدافهم التراث الثقافي الذي يعكس الحضارة والتاريخ العريق لسورية على مر الأجيال”.
الحفاظ على التراث
كما زينت إحدى زوايا المعرض بتشكيلات فسيفسائية تتباهى بألقها وروعتها لتكون امتداداً لأقدم الفنون التزيينية في منطقتنا حيث تمتد جذورها بحسب الاكتشافات الحديثة إلى الألف الثالث قبل الميلاد. وقد أثرت كل الحضارات التي تتابعت على هذه المنطقة تأثيراً كبيراً في الفسيفساء حيث أضافت إليها أشكالاً وأنماطاً مختلفة أكسبتها شهرة عالمية واسعة، خصوصاً بعد أن اكتشف علماء الآثار عدداً كبيراً من لوحات الفسيفساء في مدن سورية قديمة مثل ماري وشهبا وإنطاكية والسويداء وتدمر وحماة وحلب، ونراها اليوم في العديد من متاحفنا الوطنية لتكون بمثابة شاهدة عيان على ما أبدعه أجدادنا من حضارة وفن، وليس وجودها اليوم في مكتب عنبر من خلال هذا المهرجان إلا للغاية نفسها.
يقول الأستاذ فؤاد عربش رئيس الجمعية الحرفية للمنتجات الشرقية اليدوية: «إن المهرجان يؤكد أن الأعمال اليدوية الشرقية ما زالت مستمرة وتسهم في الحفاظ على التراث السوري الأصيل وحمايته ولا سيما في ظل ما يتعرض له حالياً من استهداف وسرقة من بعض دول الجوار ونسب بعض الصناعات اليدوية إليها امتداداً لمحاولات سرقتها من أيام الاحتلال العثماني ونقل صناعتها إلى الآستانة آنذاك إضافة إلى ما يتعرض له الحرفيون السوريون من إغراءات لنقل خبرتهم في بعض المهن إلى دول أخرى بغية سرقة هويتها السورية. ومن هنا تأتي أهمية الحفاظ على التراث السوري وربطه بالتراث العالمي وتوثيقه عن طريق منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم».
وأيضاً كان لصناعة الحفر والتنزيل نصيب في هذا النشاط والتي تعتبر من أجمل الصناعات التي عرف بها النجارون الدمشقيون في العالم لدقتها وجمال تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، ويحتاج أصحاب هذه المهنة إلى الصبر الطويل لأنها تأخذ من وقتهم ربما أشهراً ليخلق من خشب الحور والجوز والزيتون والشربين والميص والعرعر والدردار والصندل والصنوبر والسرو تحفة فنية ذات صورة مبدعة بأشكالها المتعددة مثل المقاعد والطاولات والكراسي والصناديق حيث كانت الصناديق الخشبية المرصصة بمواد تزينية مختلفة هي من التجهيزات الأساسية للعروس الشامية، كما يصنع منها إلى الآن الآلات الموسيقية الشرقية، لتسمع الموسيقا وأمامك أيضاً صورة بصرية تشكيلية في غاية الجمال.
السجاد الشامي
تقول المشاركة ميسون كركوكلي: «كل الأعمال التي أشارك بها المعرض هي يدوية، منها الرسم على الزجاج والتطريز على القماش والشك، وأنا من المشاركين الدائمين للمعارض التي تقيمها الجمعية الحرفية وذلك لأهمية هكذا فعاليات وخاصة في التعريف بالمهن اليدوية العريقة وإبداع حرفييها وتعبيرها عن روح الأصالة والتراث السوري الأصيل، وإن هذا المهرجان بشكل أو آخر يساهم في الحفاظ على هذا التراث والأعمال اليدوية الحرفية وتوثيقها كونها امتداداً للبيئة السورية وتنوعها وتعكس مدى جماليتها وعمقها الحضاري والتاريخي».
وضعت في منتصف المعرض آلة نول قديمة كانت وإلى يوم تصنع أشكال السجاد الشامي المعروف بعراقته، وأيضاً مجموعة واسعة من منتوجات النسيج، هذه المهنة التي عرفتها المدن السورية منذ القدم، وأنتجت الكتان والقطن والصوف والشعر والحرير بسبب وفرة المواد الخام النباتية والحيوانية وبراعة حرفييها، وقد اشتهرت دمشق بنسيج الأقمشة الفاخرة كالبروكار والدامسكو والأغباني والكشمير والعبي والتربيط والشراشف والشالات ومعظمها من القطن أو الحرير البلدي، وفي خزائن قاعة الأزياء الشعبية بقصر العظم الدمشقي الشهير تعرض الكثير من النماذج المتنوعة من التطريز اليدوي على أثواب وسراويل وصدريات ومحارم وقبعات وأكياس تبغ ونقود وكل هذه النماذج أخذت من مناطق مختلفة من سورية. وتعود صناعة البروكار إلى نحو ثلاثة قرون في دمشق وحلب كبرى المدن السورية اللتين تخصصتا بالبروكار الحريري ذي الخيوط الذهبية والفضية والمقصبة وذي الرسوم والتزيينات الفريدة.
منمنمات يدوية
كما شاركت دائرة العلاقات المسكونية والتنمية في بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس في هذا المعرض، حيث تقول السيدة كاتيا خوري الممثلة لهذه الدائرة: «هذا المهرجان يسهم بالتعريف ببرامج الدائرة التي تعنى بتنمية المجتمع بجميع شرائحه ولا سيما ذوي الاحتياجات الخاصة الذي يقدمون بعض الأعمال اليدوية من فسيفساء ومسابح وأحواض يمكن أن ينطلقوا بها نحو السوق وتحقق لهم مردوداً معنوياً ومادياً، إضافة إلى التعريف بأعمال بعض السيدات من منمنمات يدوية وإكسسوارات».
وتضمن المهرجان أيضاً أعمالاً يدوية خاصة بالشموع، ولوحات فنية من حصى البحر والأحجار الكريمة، والعديد من المهن اليدوية الصغيرة كالحلي والجلديات وغيرها.
المهن اليدوية تراث عظيم يجسد حضارة وطننا الغالي، فلا بد من إيجاد أساليب مختلفة للحفاظ عليها ومن الممكن تأسيس معهد مختص، يعلم المهن التي توشك على الانقراض ولا سيما أن الجيل الجديد بعيد عنها كلياً.